بقلم: عبد المجيد سويلم
ليس سهلاً على المرء أن يكون معاكساً في مواقفه للتيار السائد والاعتقادات الرائجة، والأصعب أن يكتب عن ذلك بوضوح.
لا أرى أين وكيف انتصرنا في الجولة الأخيرة من التصعيد على جبهة القطاع، ولم أفهم بالضبط أين يكمن هذا الانتصار؟
ما الذي تغيّر في واقع الأمر سوى أن إسرائيل لأسباب تخص فهمها هي، وهي وحدها، لمنظومة الأولويات لديها قد وافقت على عودة الأمور لما كانت عليه.
ولم يلاحظ حتى الآن أن استراتيجيتها حيال القطاع من كافة الزوايا الأمنية والعسكرية والسياسية، ومن زاوية الحصار والتجويع والابتزاز قد طرأ عليها شيء يوحي بأن ثمةَ «انتصاراً» فلسطينياً قد تم هناك.
كل ما في الأمر أن إسرائيل قامت بعملية أمنية كبيرة في القطاع انتهت بفشل كبير أعقبه تصعيد عسكري محسوب بدقة، وانتهى بالعودة إلى «الشُنط» وإلى إعادة الهدوء والتخفيف في بعض مظاهر الحصار وتخفيض ملموس في منسوب المسيرات.
ولأن إسرائيل لديها في الآونة الأخيرة «مخاوف»، وربما تبيّتُ لعدوان كبير على لبنان قبلت بالعودة إلى الحال الذي كان سائداً قبل عملية خان يونس.
فهل هذا هو الانتصار؟ وهل هذه الوقائع تمثل أي نوع من أنواع التراجع الإسرائيلي؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو هذا التراجع وعن أي شيء تم ذلك؟
إذا كانت إسرائيل تهدف من خلال التفاهمات عبر الوسيط القطري الإبقاء على حالة الانقسام والذهاب قُدُماً في طريق تكريس انفصال القطاع عن الجسد الوطني، والاستمرار في معركة الاستيطان والتهويد، والإمعان في التنكيل المستمر بكل ما هو فلسطيني، وتحضير كل ما «يلزم» من أجل حسم معركة القدس، فهل يُعتبر هذا المشهد تعبيراً عن هذا «الانتصار»؟
الحقيقة أن الحديث عن هذا الانتصار بالذات و»الذود» عنه عَبر وسائل الإعلام بهذه المبالغة، وتبجيله بصورة هستيرية أحياناً هو تعبير عن شعور داخلي حقيقي بأن هذا الانتصار هو انتصار وهمي ليس له أي أساس في الواقع.
أما إذا تم الاعتماد على هذا «الانتصار» باعتبار أنه قوّى حركة «حماس»، وجعل من إمكانية إنهاء الانقسام أمراً مستحيلاً، فهذا هو بالضبط مربط الفرس.
إذا كان هذا الانتصار سيعزز من المُضيّ قُدُماً في مشروع إقامة كيان فلسطيني في غزة موازٍ في الواقع القائم وبديل مستقبلي عن مشروع الاستقلال الوطني، وبعد أن يتم التهام الجزء الأكبر من الضفة، وبعد أن يتم بعد «الخان الأحمر» تكريس فصل الضفة شمالاً وجنوباً، وبعد أن يتم حسم ما تبقّى في أدراج الاحتلال من ملفات حيال أهل القدس وقياداتها الوطنية، فهل نكون في الواقع أمام انتصار، أم أمام كارثة جديدة؟
من المؤسف أن تتحوّل الأمور في الساحة الوطنية إلى هذه الصورة المشوّهة من مصالح الوطن والشعب من جهة ومن مصالح الفصائل والقبائل السياسية من جهة أخرى.
ومن المفجع أن تتحول قدرة «حماس» على التملص من استحقاق المصالحة، والعودة السريعة إلى الشُنط القطرية لتغذية جيوش الانقسام وكأنها انتصار وطني للشعب والوطن والقضية.
ومن المؤسف والمفجع في آن معاً أن نشهد هذه «المنافسة» بين قطر وإيران على تحقيق المزيد من هذه «الانتصارات» لعله يتم حسم الانفصال بسرعة مرةً وإلى غير رجعة.
وما يثير الاستغراب والاستهجان هذا الانسياق وراء هذه «الانتصارات» وكأنها حقيقية، وكأن إسرائيل دفعت ثمناً غالياً حتى تم التوصل إلى ما يتم الانسياق خلفه!
هناك محاولة لتزييف الواقع وتشويه الوعي وقلب الحقائق. الهدف هو تحويل مصلحة الفصيل إلى مصلحة وطنية كلية والمزاوجة بين أهداف الفصيل والأهداف الوطنية، مع أن التناقض بين المصالح الوطنية وبين مصالح الفصائل أكبر من أن تخفيه أي معركة إعلامية تجهد نفسها في البحث عن تلك الانتصارات المفبركة.
إذا كان يحلو لأصحاب نظرية السكوت عن هذا التناقض الفاضح، وأهل الدفاع عن مصالح هذا الفصيل أو ذاك تحت مسمّيات مختلفة من [الموضوعية والأمر الواقع]، وممن يقبلون لأنفسهم وعلى أنفسهم تزييف الواقع إلى هذه الدرجة أن يعتبروا كل هذه الخسارات انتصاراً كبيراً أو متوسطاً أو أي انتصار من أي نوع كان، فإن الحالة الفلسطينية تكون بالفعل قد وصلت إلى منحدرات خطيرة.
وإذا كانت هذه «الانتصارات» الصغيرة والإعلامية هي التي ستكرس انقسامنا، وستودي إلى تشتيتنا، فما علينا إلاّ انتظار المزيد منها، لأنها انتصارات ملتوية ومؤقتة وملتبسة، أما الخسارات فكبيرة ودائمة وعميقة في الجرح الوطني.
نريد انتصاراً واحداً صغيراً يعيد الناس إلى جادة الصواب ليفهموا الكمَّ الهائل من الأخطار المحدقة بنا.
نريد انتصاراً صغيراً ومتناهياً في الصغر يوقظ فينا همّة التوجه للوحدة وحميّة العمل الوطني المشترك.
بل أتمنى هزيمة كبيرة أو صغيرة تُحدث فينا صدمةً لاستيقاظ حالتنا والانتفاض على كمّ الخديعة والتشوّه الذي أصاب وعينا الوطني.
من اليوم فصاعداً وبعد أن تحقق «الانتصار» العظيم أصبح السير نحو الوحدة أصعب من أي وقت مضى، وأصبحت مهمة إنهاء الانقسام مستحيلة أو ما شابه.
لم يتبقَ أمام كل من ينتمي إلى تيار الوطنية الفلسطينية إلاّ مخرج واحد، علماً بأن هذا المخرج كان يجب أن يكون الأول ومنذ اللحظة الأولى للانقلاب.
إنه النموذج الوطني الديمقراطي العصري المكافح.
إذا لم يتم بناء وإعادة بناء نظام سياسي ديمقراطي ونموذج عصري وديمقراطي جديد فإن الخديعة ستستمر والتزييف سيلقى المزيد المزيد من المناصرين والمستنصرين.