في أيام غربتنا التي أضحت ثقافة التسامح الليبرالي مهيمنة على عقول كثير من كُتَّاب المسلمين، صرنا مضطرين للجدال حول قضايا كانت معلومة من دين المسلمين بالضرورة، ولم يُختلف فيها طيلة تاريخ المسلمين، كقضية الحجاب، والاختلاط، وحرية الردة، ومشاركة المسلمين الكفار أعيادهم الكفرية بالاحتفال أوبالتهنئة... والسجال في أكثر هذه المسائل ـ كما يقول الأديب الأريب بدر الثوعي ـ ليس فقهيا، ولا فيه منازع الفقهاء. ولا يهولنك الصخب؛ هذا صوت آلات خياطة المفاهيم الدينية على المقاس الغربي.
وقد وقفت على مقال لأخينا الشيخ الفاضل: "إبراهيم أعمر كل" ذهب فيه إلى جواز تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، وقد رام فيه تحرير محل النزاع فأخطأ التحرير، وأراد نقض الاتفاق على حرمة التهنئة فجانب الصواب، وابتعد عن المنهج العلمي المعروف في التعامل مع الإجماعات المحكية عن العلماء نفيا أو إثباتا، واستدل بأدلة لا تسعفه، ونقول لا تعلق لها بالمسألة، وفي ثنايا ذلك إشارات غير بريئة إلى أن تحريم تهنئة الكافر بعيده الديني خصوصية سلفية، والقائلين به جفاة ضيقو الأفق!
وفي الفقرات القادمة سأقف وقفات يسيرة مع مقاله، متوخيا الاختصار ما أمكنني ذلك، مبينا ثغرات المقال، وضعف المنهج الاستدلالي المتبع فيه، وكاشفا صحة ما اتفق عليه العلماء من عدم جواز تهنئة الكافر بعيده الديني، مع اهتمام خاص بالتحرير والتأصيل.
وليسمح لي أخي الفاضل بتلقيبه في فقرات هذه " العجالة" بلقب الكاتب مع الاحتفاظ بلقبه العلمي، ومكانته الدعوية، والاعتذار له مسبقا عن ما قد يبدر في طيات النقاش من كلام جافٍّ دون قصد أو سبق ترصد.
ما في الجدال من التكذيب مغتفر *** شأن المجادل تكذيب وتأنيب
ركن المودة منا لا تزعزعه *** من لاعج القول تكذيب وتأنيب
تحرير "تحرير محل النزاع"
قال الكاتب: إن "النقاش المحتدم كل نهاية سنة شمسية حول جواز تهنئة المسلم للمسيحي بهذه المناسبة وغيرها من المناسبات..."
وهذا ليس بدقيق، فالنقاش ليس عن مسألة التهنئة بمناسبة نهاية السنة الشمسية، وإنما هو عن عيد ديني يحتفل فيه النصراني أو غيره بمناسبة دينية، وبالأخص عيد الميلاد الذي يُفترَى فيه على الله فرية تكاد السماوات يتفطرن منها؛ فلو أن القضية قضية تهنئة الكافر بمناسبة نهاية السنة فحسب، لدخلت في مسألة تهنئة الكافر بمناسباته الدنيوية البحتة، وهي مسألة مختلف في جوازها!، وليست محل بحثنا هنا، مع أن الخلاف فيها يدل من باب قياس الأولى على أن تهنئة الكافر بمناسباته الدينية محرم.
وقال مرة أخرى: "أما القضية محل البحث فهي تهنئة المسالم من غير المسلمين بمناسبته الدينية والوطنية ونحوها"، وهذا خطأ في تحرير محل النزاع، لأنه لا علاقة للنزاع بالمناسبات الوطنية ولا "بنحوها" من الأمور الدنيوية أو المشتركة، وإنما النزاع في حكم التهنئة بعيد ديني.
وقال مرة ثالثة: "فلو قلت لمسيحي في نهاية عامه الشمسي: سنة مباركة.. سنة سعيدة.. عام مليء بالخيرات لك ولأهلك".
وهذا خطأ ثالث في تحرير محل النزاع، فمحله ليس نهاية العام الشمسي، وإنما هو ـ كما تقدم ـ أعياد الكفار الدينية.
وكان الأولى بالكاتب أن يعبر بالمصطلح الشرعي ـ خاصة ونحن في زمن حرب المصطلحات والمفاهيم ـ فيستخدم مصطلح "الكفار" بدل "غير المسلمين" والنصارى عوض "المسيحيين"، فهما لغة القرآن والسنة والأئمة.
بين "بعض فقهاء السلفية" وفقهاء الأمة
صدّر الكاتب نقاشه للمسألة بجعله منع التهنئة قولا خاصا بـ"بعض" فقهاء السلفية، وهو ما يجعل القارئ المعاصر غير المطلع على أقوال أهل العلم؛ يحسبها مٍسألة "إيديولوجية" معاصرة "من شذوذات" السلفيين بل بعض السلفيين!، ولم يكتف بهذا، وإنما جعلهم مجرد مقلدين لاين تيمية وابن القيم؛ حيث قال: "يتمسك بعض فقهاء السلفية في الموقف المفرط من تهنئة غير المسلم غالبا بأقوال لبعض المتقدمين خصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية... وتلميذه ابن القيم"، ولاحِظ قوله: "تهنئة غير المسلم" بإطلاق دون تقييد، مع أنهم يفرقون بين التهنئة بالمناسبات الدينية، والتهنئة بالمناسبات الدنيوية المشتركة، فلم الحيدة عن محل النزاع!؟ وأين الأمانة العلمية في نقل أقوال المخالف؟
ومعلوم أن هذه المسألة ليست نازلة جديدة، كما أنها ليست خاصة بالسلفيين، فقد كانت مثار نقاش وتأصيل من المتقدمين والمتأخرين، ونصّ على حرمة مشاركة الكفار وتهنئتهم بأعيادهم جمع كبير من أهل العلم سلفيهم وصوفيهم، وللشيخ محمد ولد بتار التيجاني بيتان سائران في منع تهنئة الكفار بأعيادهم، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم جواز تهنئة الكفار بأعيادهم، بل نُقل عنهم تحريم ما هو أدنى من التهنئة، قال الإمام ابن الحاج المالكي في المدخل: ومن مختصر الواضحة: "... وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له، ورآه من تعظيم عيده وعونا له على مصلحة كفره، ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة دينهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعانون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، ولم أعلم أحدا اختلف في ذلك".
فتأل قوله: "لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم"، وقوله: "وهو قول مالك وغيره، ولم أعلم أحدا اختلف في ذلك".
وهذا عن البيع الذي هو من قبيل المعاوضة لا التبرع والإحسان؛ فكيف بتهنئة الكافر والمباركة له بعيده الديني، وأي عيد؟؛ إنه عيد الكفر بالله والافتراء عليه!
والقول بجواز تهنئة الكفار أومشاركتهم الاحتفال بعيد ميلاد عيسى عليه السلام لم يقل به أحد من أهل العلم، وإنما هو قول جديد قال به بعض المعاصرين، وأغلبهم من ذوي الميول اللبرالية!
فتبين من هذا أن الكاتب لم يكن موفقا في نسبته هذا القول لـ"بعض السلفيين" (لاحظ: بعض السلفيين فقط، ولست أدري من أين جاء بهذه الإحصائيةَ؟)، مع تجاهله التام لأقوال فقهاء المذاهب، وخاصة علماء مذهبه: مذهب إمامنا مالك رحمه الله ورضي عنه.
وما يميز شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة، ليس شيئا متعلقا بذواتهما كما قد يُفهم من كلام الكاتب، فأئمة المذاهب أجل منهما، وأعظم قدرا عند السلفيين وغيرهم، وإنما ميزتهما هنا تخصيص أحكام التعامل مع الكفار بمؤلف مستقل؛ فابن تيمية ألف كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم"، وهو موسوعة علمية نفيسة في أحكام التعامل مع الكفار والتشبه بهم في مظهرهم ومخبرهم ولغتهم وأعيادهم وغيرذلك، وابن القيم ألف كتاب: "أحكام أهل الذمة"، وهو مؤلف خاص بأحكام التعامل مع أهل الذمة في أموالهم ومساكنهم وأعمالهم...، ومعلوم أن الباحث في أي موضوع يرجع ـ أول ما يرجع ـ إلى الكتب التي أفردت موضوعه بالحديث، فهي مصادر، ورتبتها أعظم من رتبة المراجع، كما هو مقرر في أدبيات مناهج البحث.
مع ابن القيم في كتاب "أحكام أهل الذمة"
قال الكاتب: "يتمسك بعض فقهاء السلفية في الموقف المفرط من تهنئة غير المسلم بأقوال بعض العلماء المتقدمين، وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية... وتلميذه ابن القيم مع أنه رحمه الله نقل أقوالا وروايات أخرى في المذهب الحنبلي".
مر في النقطة السابقة أن الكاتب أطلق منع السلفيين "تهنئة غير المسلم" ولم يقيدها بالمناسبات الدينية، وهو ما يجعل القارئ غير المطلع على المسألة يظن أن الأمر كما قال الكاتب.
وهنا أيضا وقع الكاتب في ما وقع فيه ابتداء، وأخشى أن يكون وقع في التدليس بلغة أهل الحديث، أو عدم الأمانة في النقل بلغة أهل مناهج البحث!
فمن قرأ قوله عن ابن القيم: "مع أنه نقل أقوالا وروايات أخرى" يحسب أو يستيقن ـ بناء على ثقته في نقل الكاتب ـ أن ابن القيم نقل أقوالا لعلماء يجيزون تهنئة الكافر بعيده الكفري، وهذا ما لم يفعله ابن القيم ولن يفعله!؛ ذلك أنه لم يجد من يقول بجواز تهنئة الكافر بمناسباته الدينية، ولم يدرك عصرَنا حتى ينسبه إلى أحمد الطيب شيخ السيسي!
فمن أين أتي الخلل؟
لقد تناول الإمام ابن القيم مسألة "تهنئة أهل الذمة" في فصل عنونه بـ: "فصل في تهنئتهم..."، وتحدث عن التهنئة من جانبين:
الجانب الأول: تهنئتهم بالمناسبات الدنيوية أو المناسبات المشتركة.
الجانب الثاني: التهنئة بالمناسبات الدينية المختصة بهم.
أما الجانب الأول فقد نقل فيه قولين اثنين: قولا بالمنع وآخر بالجواز، واختار ابن القيم الجواز شريطة ألا يكون ذلك بألفاظ يُفهم منها الرضا بدين الكفار مثل: "متعك الله بدينك"، وأما الجانب الثاني: فقد نقل فيه قولا واحدا، وهو عدم الجواز؛ حيث حكى الاتفاق على منع تهنئة الكافر بعيده الديني.
فالخلل المُوقِع في الخطل، دخل إلى منشور كاتبنا بسبب جعله التهنئة شيئا واحدا، وقد علمت أن ابن القيم جعلها على نوعين اثنين: نوعا مختلفا فيه؛ لكونه لا يختص بالدين، وإنما هو من قبيل الأمور المشتركة كالزواج والإنجاب والتخرج من الجامعة مثلا، ونوعا غير جائز اتفاقا، وهو ما كان من قبيل الأمور الدينية كعيد ميلاد المسيح عليه السلام عند النصارى، وعيد الغفران عند اليهود، وأعياد الوثنيين الدينية...وهكذا.
وما نقل الكاتب من نقول عن ابن القيم في جواز تعزية الكافر، لا تخرج عن هذا المعنى، فقد قال ابن القيم نفسه في حديثه عن التهنئة بالمناسبات غير الدينية: "فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب... والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق بينهما"، فلا معنى إذا لنقل ما يتعلق بالتعزية في معرض البحث عن حكم تهنئة الكفار بالمناسبات الدينية؛ ذلك أن التعزية من قبيل المناسبات المشتركة، ولا يقاس عليها إلا ماكان من جنسها، وأعياد الكفار التي هي محل البحث ليست من جنسها كما تقدم.
وثمة ملحظ مهم، وهو أن التهنئة بالمناسبات الدنيوية، رغم أنها خلو من المخالفات في أصلها؛ اختلف العلماء في جوازها، وبدهي أن من منع التهنئة بالدنيوي فسيمنع التهنئة بالديني لا محالة، ومن أجاز التهنئة بالدنيوي، كابن القيم، إنما أجازها لكونها لا تعلق لها بالجانب الديني، وهذا ما جعل ابن القيم يحكي الاتفاق على منع تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية.
مع حكاية الإمام ابن القيم الاتفاق
ذكر الكاتب نقل ابن القيم الاتفاق على منع تهنئة الكفار بشعائرهم الدينية، وقد ردّ على ابن القيم في سطر واحد تقريبا!، وحجته في ذلك أن هذا الاتفاق "اتفاق لم يذكره غيره ولم يورد رحمه الله دليلا واحدا عليه"، وبهذا يكون كاتبنا قد ردّ "دعوى" ابن القيم في ثلاثين ثانية، ولم يكلف نفسه عناء البحث والمناقشة!، ولو كان ردُّ حكاية الاتفاق بهذه السهولة، وهذه السرعة، لكان أسهل شيء في العلم رد "إجماعات" ابن عبد البر وابن حزم، و"اتفاقات" أبي ثور وابن المنذر، رحمهم الله جميعا.
والطريف أني قرأت مقالا قديما لأحد الشيوخ المعاصرين، يذهب فيه إلى جواز التهنئة، فلما وصل إلى كلام ابن القيم، وعلم أن نقض الاتفاق طريق شاق، تجنبه وأوّل كلام ابن القيم تأويلا لا يخلو هو الآخر من طرافة؛ لكن يشفع له أنه سلك منهجا مقبولا في الأصل، وهو إعادة قراءة النص، فهل سيعيد كاتبنا قراءة النص: نصه أولا، ثم نص ابن القيم ثانيا؟
معلوم أن تحصيل الإجماع على مراتب، فهناك الإجماع الإيحاطي، والإجماع الإقراري، والإجماع الاستقرائي، وهكذا، ولكل مرتبة درجتها من القطعية والظنية، كما أنه لكل مرتبة ألفاظ تؤدى بها، وتنقل بها، وقد تجاوز الكاتب هذا كله، فلم يحدد طريقة تحصيل ابن القيم لهذا الاتفاق، ولا ناقش طريقة تأديته، واستعجل النقض قبل العرض.
والظاهر أن ابن القيم حصّل هذا الإجماع عن طريق الاستقراء، وابن القيم إمام واسع الاطلاع على مذاهب الأمصار وفقهائها، ويشهد على ذلك سفره الماتع "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وقد أداه استقراؤه إلى عدم وجود عالم يجيز تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، فحكى الاتفاق بعد بحث وتفتيش، ثم إنه نظر في مسألة التهنئة بالمناسبات الدنيوية فوجد فيها خلافا بين العلماء، وعلم أن حجة من أجازها عدم وجود ما يمنع من ذلك؛ لأنها ليست مناسبة دينية، فعلم من كل ذلك أن مناط المنع هو الجانب الديني؛ فأطلق الاتفاق على منع التهنئة بالمناسبات الدينية، ثم نظر مرة أخرى إلى ما هو أعظم، وهو أن التهنئة في حقيقتها تهنئة بمعصية أو كفر، فقال: "فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه"، فتهنئة نصارني بعيد الميلاد تهنئة له بكفر، وهو احتفاله بما هو افتراء على الله، وتكذيب لألوهيته، ونسبة النقص إليه بما "تكاد السموات يتفطرن منه..."، فلم نرضي المخلوق بسخط الخالق جل جلاله!؟ لمه!؟
وقد سبق في نقل ابن الحاج عن إمام المالكية عبد الملك ابن حبيب في "الواضحة" أنه قال: "لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم... وهو قول مالك وغيره، ولم أعلم أحدا اختلف في ذلك".
ومعلوم أن البيع من المعاوضات، والتهنئة من التبرعات، فمن منع البيع والكراء لهم في أيام عيدهم؛ فمن باب أولى يرى عدم جواز تهنئتهم به، ولا يفتك قوله، كما نبهت قبلُ: "وهو قول مالك وغيره، ولم أعلم أحدا اختلف في ذلك"، وهذا الإجماع الذي نقل ابن حبيب، رغم أنه من حيث اللفظ الذي أداه به دون مرتبة نقل ابن القيم؛ ذلك أن نقل الإجماع بلفظ " لا يُعلم خلاف" دون مرتبة نقل الإجماع بلفظ " الاتفاق"، وأعلى منهما لفظ "الإجماع" عند من يفرق بين "الاتفاق" و"الإجماع"؛ رغم ذلك إلا أنه لما كانت مسألة ابن حبيب (بيعهم ما يستعمل في العيد الديني) دون مسألة ابن القيم (تهنئتهم بعيدهم الديني) إلا أنها في النهاية تشهد لما قال ابن القيم من حيث الدلالة.
فنقض اتفاق ابن القيم كان يتطلب من كاتبنا المرور بهذه الخطوات المهمة، وإتباعها بخطوة أخرى لا تقل أهمية عنها، ولن نسترسل فيها، لكن نشير إليها بشكل مختصر، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
عند التدقيق في حكاية أي اتفاق سنكون بالسبر والتقسيم أمام ثلاث حالات أو مراحل:
1. وجود نقول مخالفة لحكم الاتفاق.
2. وجود ناقل لعدم الاتفاق.
3. عدم وجود نقل من النقلين السابقين.
فإذا وجدنا أقوالا معتبرة مخالفة لحكم الاتفاق؛ توقفنا عند هذا الحد، وعلمنا أن نقل الاتفاق مردود، وبقي البحث في حكم المسألة المدروسة خارج دائرة الاتفاق، لأن مجرد وجود الخلاف في المسألة ليس حجة بخلاف الاتفاق، وإذا لم نجد أي قول معتبرمخالف لحكم الاتفاق، انتقلنا إلى الحالة الثانية.
فإذا وجدنا ناقلا لعدم الاتفاق من العلماء المعتبر حكمهم في هذا الشأن، رجحنا قوله على قول ناقل الاتفاق، وإذا لم نجد من نقل عدم الاتفاق، ولا نقلا مخالفا لحكم الاتفاق، لم يحق لنا نقض الاتفاق، خاصة إذا صدر من عالم مطلع عارف بمواضع الخلاف والإجماع كالإمام ابن القيم مثلا.
وتوجد في المقابل حالات تُعَضِّدُ نقل الاتفاق مثل وجود ناقل آخر له؛ لكنها لا تنفي الاتفاق إذا لم توجد، فهي كالشاهد الحديثي لحديث صحيح في الأصل، فإنه يقويه إذا وُجِد، ولا ينفي صحته إذا فُقِد، وبهذا تعلم أن قول الكاتب عن اتفاق ابن القيم: "اتفاق لم يذكره غيره" منهج خاطئ في نقض الاتفاق، لم يفرق صاحبه بين ما يُردُّ به الاتفاق وما يتقوى به، وقد عرضنا في الفقرة السابقة ما يُردّ به نقل الاتفاق.
مع نقول الكاتب في "التهنئة"
التهنئة في حقيقتها نوع من المشاركة، وإن نفى الكاتب ذلك، فهي مشاركة وجدانية، وفرح بفرح من تهنئه، ولذا شاع في حِكم الناس أن الصديق أو الجار هو من يشارك صاحبه أفراحه وأحزانه، ومشاركته تكون بتعزيته أو تهنئته.
قال الكاتب: "إن باب التهنئة عرفي يجري حكمه على المعروف بين الناس" ثم نقل نقلين أحدهما عن ابن حجر والثاني عن القمولي، وليس فيهما ما يتعلق بما تعلق به كاتبنا.
والمسألة الواردة في النقلين إنما هي عن حكم التهنئة بالعيد والجمعة...، مثل قول الناس: جمعة مباركة، وما إلى ذلك، وكلامهما بطبيعة الحال عن أعياد المسلمين وجمعة المسلمين!، وقد كتب فيها الإمام السيوطي رسالة مستقلة عنونها بـ: "وصول الأماني بأصول التهاني" قال في مقدمتها: "فقد طال السؤال عما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد والعام والشهر والولايات ونحو ذلك: هل له أصل من السنة؟" فالحديث عن ألفاظ التهنئة بمناسبات المسلمين الدينية أو الدنيوية هل له أصل في السنة أم لا؟ والغريب أن هذه المسألة، وهي دون مسألة تهنئة الكافر بعيده بكثير، مختلف فيها بين من يرى جوازها ومن يرى بدعيتها، والقرملي نفسه نقل عن الحافظ المقدسي قوله: "الناس لم يزالوا مختلفين فيه".
وابن حجر والقرملي شافعيان ومع ذلك نقل الكاتب عنهما ما يتعلق بتهنئة المسلمين ـ وليست محل بحثنا ـ ولم ينقل عن مذهبهما الشافعي ما يتعلق بتهنئة الكفار بعيدهم ـ وهي محل بحثنا ـ مع أن الشافعية لا خلاف بينهم في تحريم تهنئة الكافر بعيده بل يرون تعزيرالمسلم إذا هنأ الكافر، قال الإمام الخطيب الشربيني شيخ الشافعية في زمانه "ويعزر: من وافق الكفار في أعيادهم، ومن قال لذمي يا حاج، ومن هنأه بعيده".
والنصوص في مسألة التهنئة غير منعدمة كما ذكر الكاتب، وقد أورد السيوطي طائفة كبيرة منها، وصح سند عدد منها؛ فلتُراجع هناك.
والذي ينبغي أن ينظر إليه في التهنئة عموما هو الباعث عليها لا أصلها، فإذا كانت تهنئة بمشروع كانت مشروعة، وإذا كانت تهنئة بمحرم كانت محرمة، ومعلوم أن عيد الميلاد قائم على أصل كفري عظيم، فكيف نهنئ النصراني به، هل نقول له هنيئا لك عيد الميلاد، أي ليهنئك ميلاد من تنسبه إلى الله عز وجل افتراء، فمعناه في النهاية: دعاء بالسعادة في العيد وبالعيد!
وقد أورد السيوطي في رسالته السابقة حديث الطبراني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما حق الجار على الجار؟ إن استعان بك أعنته وإن استقرضك أقرضته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته".
فهنا نجد أن نظر النبي صلى الله عليه وسلم في التهنئة كان إلى الباعث عليها ومقتضيها، وقد حصر التهنئة بقوله: "وإن أصابه خير هنأته" فالتهنئة تكون على الخير لا الشر، وعيد النصارى الديني شر قطعا بل أعظم الشر، فهل يحسن تهنئتهم على الشر بل على الكفر!؟
وقفة مع أدلة الكاتب
قال الكاتب في مبحثه المعنون بـ(أدلة جواز التهنئة): "هناك جملة ممن الأصول والأدلة العامة والخاصة ينبني عليها في رأيي جواز تهنئة غير المسلم بأعياده..".
ثم أجملها في خمسة أدلة، ترجع كلها ـ لمن تأملها ـ إلى دليل واحد، وهو دليل عام غير خاص خلافا لما ذكر الكاتب، وأدلته هي: (ما بين ظفرين من كلام الكاتب)
1ـ "المنهج النبوي في معاملة المسالمين من غير المسلمين".
2ـ "آية الممتحنة الجامعة" التي تحدد طريقة التعامل مع الكفار ومتضمنة في " المنهج النبوي في معاملة المسلمين من غير المسلمين".
3ـ "الأوامر العامة الآمرة بحسن الخلق" في المعاملة، وهي داخلة في "المنهج النبوي في معاملة المسالمين من غير المسلمين".
4ـ "الوفاء بالجميل" وهوداخل في "المنهج النبوي في معاملة المسالمين من غير المسلمين".
5ـ الدعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة، وهي ـ كما سبقها ـ داخلة في "المنهج النبوي في معاملة المسالمين من غير المسلمين" ودعوتهم إلى الإسلام.
وبهذا يتبين للقارئ أن جميع ما أورده الكاتب في هذا المبحث يرجع إلى أصل عام، وما بعده كله فرع عنه، ومثال له، وسنقف قليلا مع دليل الكاتب أو أدلته كما قال هو.
قال الكاتب: "إن المتتبع للهدي النبوي في معاملة غير الحربي لا يجد إلا ما يجد في معاملته صلى الله عليه وسلم للمسلم من حسن العشرة والوفاء والتواضع....فقد قبل هداياهم واشترى منهم...".
ما قاله الكاتب صحيح، ومتفق عليه؛ لكنه خارج محل النزاع، وبعيد عن مسألة النقاش، وجميع ما ذكره الكاتب مثال من أمثلة "المناسبات المشتركة" التي ذكر ابن القيم جوازها، فالبيع والشراء، ومثله قبول الهدايا ليس من قبيل الأمور الدينية، وقد مرّ القول إن الضابط في هذه المسألة ألا تكون من قبيل المسائل الدينية، وسبق ما في "كتاب الواضحة" للإمام المالكي عبد الملك بن حبيب من نقله عن مالك عدم جواز بيع ما فيه مصلحة عيدهم الديني، فهذه عمومات متعلقة بالمسائل غير الدينية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هنأ الكفار بأعيادهم مع قيام المقتضي لذلك حينها، فعُلم من ذلك عدم جواز التهنئة بالمناسبات الدينية، وهذا ما جرى عليه عمل جميع العلماء في العصور المتقدمة، مع أن النصارى كانوا بين ظهرانيهم طيلة تلك الفترات.
وقد ثبت عن عمر ـ رضي الله عنه ـ اشتراطه على الذميين عدم إظهارهم احتفالات أعيادهم الدينية، ولا يُعقل أن يمنعهم من إظهار احتفالاتهم مع تجويزه التهنئة بيوم عيدهم الكفري.
ثم أورد الكاتب بعد ذلك حديث تشميت اليهودي العاطس: "كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم ويصلح بالكم".
والعجيب أن هذا الحديث حجة له لا عليه؛ ذلك أن الحديث يدل على تنوع تعامل النبي صلى الله عليهم حسب المقام، فالمقام الديني عنده ليس كالمقام الدنيوي، وهنا لما كان المقام مقام دعاء، لم يدع لهم بالرحمة، وإنما دعا لهم بالهداية، مع أن الأصل أن يقال للعاطس: "يرحمك الله"، وهو الذي كان يبحث عنه اليهودي، فاختلف التعامل بين المسلم والكافر عندما تعلق الأمر بالدين.
وهذا التفريق في التعامل بين المناسبات الدينية والدنيوية كثيرا ما نص عليه أهل العلم، ومن ذلك قول الإمام يحيى بن يحيى الليثي المالكي، كما في "معيارالونشريسي": لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني ولا مسلم".
فالتهادي وإن كان جائزا في الأصل ـ على خلاف في ذلك ليس هذا محله ـ إلا أنه يمنع إذا تعلق بمناسبة دينية مختصة بالكفار، وبهذا يُعلم أن جميع ما أورد الكاتب من أمثلة في مبحثه: "أدلة جواز التهنئة" يدخل في باب المناسبات الدنيوية المشتركة وليس المناسبات الدينية المختصة بالكفار.
وباقي الأمثلة التي ذكر لا تخرج عن هذا الباب كرد السلام وقبول "حسان رضي الله عنه" هدية جبلّة، وعيادة المريض.
وفي الأخير:
هذه أبرز الملاحظات المنهجية على مقال أخينا الفاضل، وأشير في ختامها إلى أن البر بالكافر غير الحربي واسع جدا، وأبوابه عديدة، وليس منها تهنئته بأعياده الدينية، وهي على العموم أقل بكثير من مناسباته الدنيوية المشتركة.