بسم الله الرحمن الرحيم
المعالجة القضائية لمشكل الاسترقاق في موريتانيا ( المحكمة الشرقية لمحاربة العبودية نموذجا )*
القاضي / سعدن التراد
وكيل الجمهورية بولاية لحوض الشرقي
تعتبر المحكمة الجنائية الشرقية الخاصة بمحاربة العبودية والاسترقاق من أهم المحاكم المختصة التي أنشئت بموجب القانون رقم 031/2015 والمرسوم رقم 002/2015 المطبق له والمحدد لمقر دوائر الاختصاص الترابي للمحاكم الجنائية في مجال محاربة العبودية
وقد جاء إنشاء هذه المحاكم ضمن خارطة طريق صادقت عليها الحكومة الموريتا نية تتألف من ثلاث محاور : محور, اقتصادي ، وآخر اجتماعي والثالث قانوني .
وتعتبر هذه المحكمة من أكثر هذه المحاكم نشاطا , وذلك من حيث عدد جلسا تها ، والملفات التي استعرضت أمامها ,
فقد عقدت هذه المحكمة دورتين الأولي منهما بتاريخ 16 / 05 / 2016 , وكانت أول دورة تعقد علي مستوي التراب الوطني يمثل أمامها أشخاص متهمين بتهمة الاسترقاق في ظل القانون رقم 031 / 2015 , وقد صدر عنها حكم أدانت فيه بعض المتهمين بهذه الجريمة , وهو الحكم رقم : 01 / 2016 بتاريخ 16 / 05 / 2016 , وقد ظل المحكوم عليهم قابعين في السجن المدني بالنعمة إلي أن انتهت محكوميتهم .
وهذا الحكم هو الحكم الوحيد الذي أصبح نهائيا في هذا المجال بعد أن أجرت عليه محكمة الاستئناف بكيفة تعديلا في جانبه المتعلق بالتعويض للضحايا , حيث رفعت تعويض المتهمين من ثلاثة ملايين إلي ستة ملايين أوقية .
إلا أن هناك عراقيل لا زالت تحول دون تنفيذ الجانب المتعلق من الحكم بالتعويض ، وذلك نظرا لأن هؤلاء المتهمين يقطنون الأراضي المالية .
ويعتبر هذا الحكم حكما متوازنا في نظر البعض , إلا أن هناك من يري أنه كان متساهلا ، ولم يطبق القانون 031/2015 تطبيقا مناسبا ، وذلك لأن هذا القانون اعتبر جرائم الاسترقاق جرائم ضد الإنسانية ، ولا تتقادم ووضع لها عقوبات مشددة ، وان تخفيف العقوبة ووقف بعضها لا معني له لأن الإدانة بهذه الجريمة ظرف تشديدي في حد ذاته ، كما أن توقيف بعض العقوبات لا يتأتي إلا في مجال الجنح كما تنص على ذلك المادة 658 من قانون الاجراءات الجنائية .
أما الجلسة الثانية لهذه المحكمة فقد كان تاريخها 26/11/2018 وقد جدولت فيها تسع ملفات ، وبما أن أكثرية هذه الملفات اتهم أصحابها في ظل القانون رقم: 048/2007 ــ ذلك القانون الذي لم ينص فيه على عدم تقادم جرائم الاسترقاق كما هو الحال في القانون رقم 031/ 2015 ــ فقد حكمت فيها هذه المحكمة بالتقادم .
وكانت النيابة العامة قد طالبت بإعادة التكييف من المواد التي تم علي أساسها الاتهام وهي المواد 2, 4 , 6 من القانون رقم : 048/ 2007 إلي المواد 3 و7 من القانون رقم : 03/ 2015 وسجن المتهمين 15 سنة وتغريمهم والحكم للأطراف المدنية بالتعويض المناسب .
وهذه الاحكام قد تم استئنافها من النيابة والاطراف معا وهي الآن في عهدة محكمة الاستئناف .
ويجدر التنبيه إلى أن هذه الملفات سبق وأن أحيل أكثرها أمام الغرفة الجزائية بمحكمة ولاية الحوض الشرقي ، كما أن البعض منها قد تمت فيه مصالحة بين الأطراف . إلا أن النيابة طلبت من الغرفة الجزائية التخلى عن هذه الملفات وإحالتها للمحكمة المختصة ،فرفضت تلك الغرفة ذلك الطلب وبتت في الأصل وحكمت بتقادمها ، فاستأنفت النيابة تلك الأحكام لتستجيب محكمة الاستئناف وتلغي حكم الغرفة الجزائية بالولاية ، وتحيل تلك الملفات أمام المحكمة المختصة بالعبودية والاسترقاق .
وإذا كان القانون رقم 031/ 2015 لم ينظم عمل هذه المحاكم من الناحية الإجرائية تاركا ذلك للقواعد الإجرائية العادية الواردة في قانون الإجراءات الجزائية ، فقد برزت مشاكل عديدة في الميدان العملي عند محاولة وضع القواعد الموضوعية لهذا القانون قيد التطبيق , مثل من يقوم بتحريك الدعوي المتعلقة بهذه الجرائم ومن يمثل النيابة العامة أمام تلك المحاكم ،وهل تشكيلة هذه المحاكم لابد من وجود محلفين ضمنها ، وهل المتهمين أمامها يجب استجوابهم إجباريا بالشكلية التي نصت عليها المادة 255 من ق ا ح ,
فيما يتعلق بالنقطتين الأولي والثانية : فقد جاء في تعميم صادر عن المدعي العام لدى المحكمة العليا بتاريخ : 17/04/2017 وموجه إلى كافة اعضاء النيابة بأن وكيل الجمهورية الذي وقعت الجرائم بدائرته مختص بتلقي الشكاوى والبلاغات والمحاضر وتحريك الدعوى العمومية بشأنها والتقدم أمام قضاة التحقيق بطلبات الإحالة أمام محكمة مكافحة جرائم الاسترقاق المختصة .
وجاء في هذا التعميم ايضا بأن تمثيل النيابة العامة في جلسات محاكم جرائم الاسترقاق من اختصاص وكيل الجمهورية بدائرة مقر هذه المحاكم مالم تعقد جلساتها خارج مقرها ،وحينئذ يمثل النيابة العامة أمامها وكيل الجمهورية الذي تعقد الجلسة بدائرة اختصاصيه .
و فيما يخص النقطتين الثالثة والرابعة : فالذي درج عليه العمل القضائي هو اعتبار هذه المحاكم محاكم جنائية متخصصة تطبق أمامها من الناحية الإجرائية كافة المواد التي تطبق أمام المحكمة الجنائية العادية المنظمة بالمواد : 222 وما بعدها في بابها من قانون الإجراءات الجزائية ، أي أن تشكلتها لابد أن تضم محلفين ، وكذلك فإنه لابد من استجواب المتهمين أمامها بالشكلية الواردة في المادة : 255 من قانون الإجراءات الجزائية .
ولأن هذه الجريمة ــ لخطورتها ــ أحاط المشرع التعامل معها بنوع من الاستثنائية – ليس بجعل محاكمها متخصصة كما اسلفنا ــ وإنما ايضا بجعل القواعد الواردة في النصوص التي تحكمها قواعد خاصة .
فإن ذلك يستدعي منا أن نتحدث قليلا عن التطور التشريعي لمحاربة هذه الظاهرة في بلادنا،
فإذا كانت موريتانيا منذو استقلالها قد صادقت على المواثيق ولاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان في هذا المجال ، إلا أن أول نص قانوني يجرم هذه الظاهرة بشكل واضح هو الأمر القانوني رقم : 234/81 لتتوالي بعد ذلك النصوص القانونية إما إيحاء أو تصريحا إلى أن جاء القانون رقم : 048/2007 الذي كان واضحا في تجريم هذه الظاهرة ووضع لها العقوبات المناسبة ، وقد كلل هذا التطور بصدور القانون رقم: 031/ 2015 الذي تعامل مع هذه الظاهرة بكل حزم ، ونص على أنها جرائم ضد الانسانية ولا يمكن أن تتقادم.
وإذا كان الأمر القانوني رقم :234/81 لا يحتوي إلا علي مادتين تتعلق الأولي بتجريم العبودية والتعويض وتتعلق الثانية بالنشر دون إعطاء تفصيل فإن القانون رقم : 048/2007 كان أكثر تطورا وتفصيلا فقد حدد الجرائم وفصلها ووضع لها العقوبات ، وإن كانت أغلب مواد هذا القانون جنحا ,إلي أن جاء القانون رقم 031/2015 الذي حدد الممارسات الاستعبادية وعرفها ونص علي أن هذه الممارسات جرائم ضد الانسانية وأنها لا تتقادم وأعطي للمنظمات العاملة في هذا المجال حق المؤازرة بعد أن كان يقتصر دورها في القانون القديم علي المساعدة فقط , كما أن مواد هذا القانون كلها جنائية باستثناء المادة 19 التي تنص علي الشتم العلني .
إن الترسانة القانونية المتعلقة بهذا الموضوع جاءت في سياق الخطوات الإيجابية التي تحققت في مجال الرفع من حقوق الإنسان عموما ، ومحاربة هذه الظاهرة خصوصا ، كما أن إنشاء هذه المحاكم يدخل في سياق بناء مشروع مجتمعي متكامل من شأنه تمكين بلادنا من الانخراط في مصاف الدول الديموقراطية الملتزمة بتحقيق العدالة لجميع أفراد مجتمعاتها بغض النظر عن انتماءاتهم وشرائحهم .
ويلاحظ إلى أن هذا النوع من الجرائم لا يرتكب إلا في المناطق النائية والبعيدة ، بل إننا نلاحظ أنه في بعض الأحيان ترتكب هذه الجرائم من طرف أجانب وفي أراضي أجنبية ، ذلك أن الشمال المالي المحاذي لبلادنا من الشرق لا يخضع لأي سلطة وينشط فيه المهربون والارهابيون وترتكب فيه كافة أنواع الجرائم .
ثم إن كثرة الملفات والقضايا - نسبيا - التي أثيرت أمام هذه المحاكم لا يؤيد الرأي الذي يقول بأن هذه الظاهرة موجودة فعلا وأن تعدد هذه القضايا دليل على ذلك ، بقدر ما يؤكد مدى جدية الدولة في محاربة هذه الظاهرة وذلك بإنشاء قضاء متخصص لها ، إذ أنه من بين هذه القضايا التي تزيد على 13 حالة والتي تم عرضها أمام هذه المحكمة لم تتم إدانة بصفة نهائية إلا في قضية واحدة.
وكخلاصة فإنه يظهر بجلاء وحزم عزم الدولة وحرصها علي القضاء علي اثار هذه الممارسة ومخلفاتها . وقد وصلتنا في النيابة العامة تعميمات من المدعي العام بضرورة الحزم والجدية في التعامل مع الشكايات المتعلقة بهذا الموضوع