كتاب: "موريتانيا إلى أين؟" للباحث د.بديأبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس.
الحلقة السادسة: الامتيــــازات في وجه الحقـــــوق
انطلقت أغلب حركات التحرر غداة الحرب الكونية الثانية من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن أدبيات "مسألة الوطنيات". ومعيارُ تحديد الأراضي التي لا تنتمي "شرعيا" إلى القوى الاستعمارية هو أولا معيارٌ ثقافي تاريخي وتاليا معيار ٌجغرافي. أي أنها انطلقتْ للمطالبة بامتلاك أراضيها لسيادتها من مبدأ الحقوق الثقافية المجموعاتية كشرط للحقوق الفردية بعد أن شعرتْ غداة الحرب الثانية أن القوى الأوربية قد أضعفت نفسها بنفسها، خلال الحربين كقوى عالمية.
وقد تأسس ذلك على أرضية مبدئية صريحة محتواها عدم القبول باختصار المطالب على ما يتعلّق منها بالحقوق المواطنية الفردية. والقوى الاستعمارية لم تمنح، غالباً، حقوقا مواطنية فردية موسّعة إلا في حدودها الأوربية أي في فضاءاتها الثقافية الخاصة.
أما المستعمرات فلمْ تكن كما هو معروف معنية كثيراً بالحقوق المكتسبة.
وجليٌّ أن القوى الجديدة لمابعد الحرب العالمية الثانية - الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي - قد شجعتْ في البداية مبدأ حق تقرير المصير، الذي تمّ تكريسه في القانون الدولي، لسحب البساط من القوى الأوربية التقليدية. غير أنه في حالات معتبرة، بينها الحالة الموريتانية، ما لبثت النخب الكومبرادورية الموروثة عن الاستعمار، أن اكتشفت، بعد "الاستقلالات"، أن الفروق الثقافية التي تفصلها عن القوة الاستعمارية ليستْ دائماً أكثر من الفروق التي تفصلها هي نفسها عن شعوبها، على الأقل في مستوى لغة التكوين، مهما كان التكوين متواضعاً.
وقد فاقم الأمر، في الحالة المورياتانية والحالات المماثلة، وجود نخبة منافسة قبل استعمارية تتمتع بلغة مكتوبة ظلّتْ حاضرة متمكنة في قاعدة الهرم، بعد أن فقدت جزءا من رأسمالها الرمزي المرتبط بقمته.
وفي جميع الأحوال فإن طرْحَ "مسألة الوطنيات" ومبدأ حق تقرير المصير ما لبث أن ارتدّ على النخب التي خلفتْ الإدارات الاستعمارية، وما لبثتْ الدول "المستقلة" حديثا أن واجهت مشكلات وجود داخل حدودها الموروثة عن الاستعمار، أمام غياب الحقوق المواطنية وتكريس دولة الامتيازات في ظل هشاشة المشروعية التاريخية لهذه الدول ولحدودها.
وإذاً، فإنَّ المطالب الثقافية واللغوية هي في الأساس وجهٌ من أوجه انعدام الحقوق المواطنية الفردية.
الفئات الكومبرادورية الموريتانية - كما هو حال أغلب الفئات المماثلة، ولاسيما تلك التي ورثتْ النموذج الفرنسي - وُلدتْ متأرجحة بين تجاهل الحقوق الثقافية من جهة وبين استثمارها السياسي من جهة ثانية. ولكن التوكيل الاستعماري الذي حلّ، بالنسبة إلى السلطة الموروثة عن سينلوي، محلَّ حروب التحرير الوطنية كما عرفتْها مستعمرات أخرى، قد أضعف ثقافة ارتباط السيادة بالاستقلال الثقافي لدى السلطة الموريتانية الموروثة عن سينلوي، بينما كان توظيف الحقوق الثقافية أقوى لدى الأنْوية الحركية المعارضة.
لم تأخذ السلطة الموروثة بعين الاعتبار كون تجاهل الحقوق الثقافية في بعض الدول الوطنية الحديثة، تزامَنَ مع اعترافٍ بالحقوق المواطنية الفردية وبتكريس تدريجي لها عبر إلغاء ميداني معتبَر للامتيازات الإقطاعية وشبه الإقطاعية ساعدت عليه الثورة الصناعية ومسلسل الفردنة الذي أثمرته والحركات الاجتماعية المصاحبة لهما.
وفي ظل غياب دولة الحقوق وتكريس دولة الامتيازات فإن الانتماءات الثقافية واللغوية تصبح تلقائياً، ككل الهويات الجزئية، أدوات جاهزة للتوظيف الصراعي. ومن ثم تصبح إشكالية اللغة التربوية ولغة العمل مطروحة على نحوٍ لا يسمح بفهمها وتجاوزها بشكل معقلن، وذلك لأن منطوق الأطروحات لا يكشف، في ظل التوظيف الصراعيالتحاصصي، عن مضمرها أو عن المسكوت عنه في ثناياها.
نخلص إذ ذاك إلى أن إشكالية التعايش التي تُطرح كثيرا في النقاشات الجارية تصدر في حيثياتها الرئئيسة عن استثمار النخب الدولتية للهويات الجزئية ومنحها إياها أدبيات تنظيرية تؤدلجها، لاستخدامها الأداتي في الصراع على كسب المواقع والامتيازات.
وهو استثمار تُنتجه بنية الدولة الموروثة كدولة امتيازية لا تعترف بالفرد المواطن إلا في النصوص الميتة، بل تحيله عمليا إلى انتمائه الجزئي الثقافي والعصبي والشرائحي والجهوي إلخ.
لا وجود لحقوقٍ للأقليات، إذْ ببساطة لا وجود لحقوق حصرية لا "للأقليات" ولا "للأكثريات"، أيا كانت مشروعية المصطلحين والمعيار الذي نحددهما بواسطته. عمليا هناك امتيازات تُوزَّع حسب المعايراتالتوازنية، أو بعبارة أدقّ حسب المعايراتالزبونية.
والتجارب الحديثة تثبت بمختلفها أنما يؤجج المطالب الثقافية ليس بالدرجة الأولى وعياً ما حصريا بهذه الحقوق الجماعية وبالمشكلات المعقدّة التي تطرحها، وإنما الفشل في الحصول على الحقوق المواطنية الفردية المستقلة عن الهويات الجزئية، أي أن ما يؤججها في الخلاصة ليس إلا فشل الدولة كوازع عمومي للحقوق والواجبات المشاعة