ظلَّ الموريتاني يولّي بظهره للبحر طويلا، وينظر إليه على أنه مجرّد جسم غريب يستلقي بعيدا في وِحدَته الأبدية، وتضع كتلته المائية الضَّخمة حاجزا جغرافيا صارما لامتداد اليابسة ناحية الغرب.
لذلك لم يتغنَّ الشعراء عندنا بالبحر، لقد كانت الجبال والهضاب والوديان وغيرها من أشكال الطبيعة وتمظهراتها أكثر حضورا منه في الوجدان المجتمعي والذاكرة الأدبية، رغم أن البحر يضجُّ في باطنه بالثروات والأرزاق من أسماك ومعادن، وتلفُّ ظاهره زرقة فاتنة تسحر العين حين تذوب في أحضانها أشعة الشمس الذهبية، وفي ملمحه العام من مظاهر الجمال والاتّساع والقوة ما يُغري الأديب باستدعاء الصُّور البديعة، لكنها النظرة الجافية لابن الصحراء للماء ومتعلقاته طَبَعَت العلاقة بالبحر؛ فكان ارتباط الموريتاني وحنينه مقتصرا على الجزء اليابس من أرضه، موليّا ظهره ووجدانه للبحر.
ومع أن البحر الموريتاني يمتدُّ على طول أكثر من 700 كلم، وتشغل مياهه مساحة 234 ألف كلم مربع، أي ما يزيدُ على 20% مقارنة بمساحة اليابسة، ويُحاذي مدينتين من أهم وأكبر المدن الموريتانية (انواكشوط وانواذيب) ظلّ هذا الكائن الضّخم في منأى عن التفاعل الجَمعي، وكانت حالاتُ التّلاقي التي ارتبط أهلها بالبحر وأنتجت تقاليدها البحرية الخاصة محدودة جدا، إذ اقتصرت على مجموعتي "إيمراكن" في الشمال و"الولوف" في الجنوب.
ومع أن موجات الجفاف في السبعينيات والثمانينيات، وحركة التّمدن المتسارعة حملت الناس إلى الاستقرار في العاصمتين المُطلّتين على السّاحل، إلاَّ أن ذلك لم يُثمر علاقة بالبحر، واقتصرت حالاتُ التّواصل على صيّادين تقليديين -أغلبهم من غير الموريتانيين- يتتبّعون بقواربهم الخشبية مظانًّ الأسماك، وعلى خرجات محدودة لمواطنين في عطلة نهاية الأسبوع، تبقى أقدام أغلبهم مثبّتة على تربة الشاطئ، تُربكهم الدهشة ويقيّدُهم الخوف عن التواصل ونسج الروابط مع هذا الكائن المعطاء العملاق.
ولعلّ من الملاحظات العجيبة الدّالة في هذا السياق؛ أنّ شواطئ الدُّنيا كلها تضجُّ بالناس والعمران والمنشآت السياحية، مما أصبح يشكل تحديا عالميا توضع له المقاربات التسييرية (ICZM) للتخفيف من آثاره السلبية على البيئة البحرية، غير أن شواطئ موريتانيا تكاد تكون الاستثناء، فهي جرداء مقفرة، إلا ما كان من قُرى ضئيلة متناثرة لا تعكس حالة عامة ولا ثقافة بحرية راسخة.
وهكذا في المُحصّلة لم تُنتج موريتانيا تقاليدها البحرية الخاصة، وظلت في منأى عن البحر، رغم أن الأخير ثابت لم يُغيّر من مكانه، تصرخُ أمواجه في حركتها الأبدية: أنا هنا أيها الموريتاني، فهل إلى تلاق من سبيل؟
الثّراء بالأنواع البحرية:
من "الرأس الأبيض" شمالا على التخوم المغربية، إلى "اندياغو" جنوبا على الحدود مع السنغال، تمتد السواحل الموريتانية مُطلّة على المحيط الأطلسي، حبا الله المياه البحرية الموريتانية ببعض الخصائص البيئية والفيزيائية الفريدة، مما جعلها واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى، وليس ذلك من المبالغات؛ على غرار بعض الألقاب الكبيرة الأخرى التي وُصفت بها المنطقة، بل هو حقيقة علمية مسطورة في أهم الكتابات والوثائق العلمية التي تتناول البحر الموريتاني بالرّصد والدراسة.
ففي معلومات أولية غير نهائية1 تم إحصاء أكثر من 700 نوعا من الأسماك، منها 170 قابلة للتسويق التجاري، 33 نوعا من الثدييات البحرية من أصل 34 هي كل ما تم رصده في شواطئ إفريقيا الغربية، 200 نوعا من الطحالب وأكثر من ذلك من الطيور البحرية.
وتشكل محمية "حوض آركين" أحد أكبر الأماكن العالمية لتجمعات الطيور، تحُجُّ إليها من أصقاع الدنيا لقضاء موسم الشتاء، وتحتضن المحمية أيضا أكبر تجمع عالمي من الأعشاب البحرية من نوع (prairie de zostères)، ويُؤوي "الرأس الأبيض" أهم مستعمرات عجل البحر الأبيض المتوسط Monachus monachus وهو أحد الثدييات البحرية الأكثر تهديدا بالانقراض على مستوى العالم، لم يتبق منه سوى 500 فردا نصفها تقريبا تعيش في أجراف الرأس الأبيض بموريتانيا؛ تلك لمحة مختصرة وصورة من صُوّر الثّراء بالأنواع البحرية تزخر به المياه البحرية الموريتانية في هذا الجزء من صحراء إفريقيا القاحلة.
الغِنى المُنبثق من الأعماق:
تتميز المياه البحرية الموريتانية بعدة خصائص بيئية، تجعل منها واحدة من أغنى المناطق البحرية في العالم بالأسماك، ولعل من أهم هذه العوامل ما يعرف بظاهرة الأبويلينغ upwelling، نتيجة بعض العوامل الفيزيائية وحركة الرّياح وما تتركه من فراغ في المياه السطحية، تصعد الكتل المائية الباردة من الأعماق إلى الأعلى، مُحمّلة بالمُغذّيات، لتحلّ محلَّ المياه السطحية الأكثر دفئا، مما يتسبب في وفرة العناصر المغذية على السطح، الأمر الذي يرافقه وفرة في نمو العوالق النباتية مستفيدة من ضوء الشمس، وكذا نمو الكائنات الحية الدقيقة الأخرى التي تعدُّ بداية للسلسلة الغذائية مما ينعكس على باقي الكائنات الحية كالأسماك تنوعا ووفرة، توجد هذه الظاهرة في أربع مناطق من العالم، من بين أهمّها تلك التي تحدث في الشواطئ الموريتانية، حيث تستمر ظاهرة الأبويلينغ طوال السنة في المنطقة الشمالية وحوالي 9 أشهر في المنطقة الجنوبية قرب انواكشوط.
نِعمةُ اللُّقيَا على ميعاد:
في المياه الموريتانية يلتقي التيار الكناري البارد القادم من الشمال بالتيار الغيني الحار القادم من الجنوب، هذا اللقاء على ميعاد يُوفّر بيئة ملائمة لنموّ وتكاثر العديد من الأسماك، سواء تلك الباحثة عن الدفء أو البرودة، أو تلك التي تبحث عن ظروف مناخية خاصة نتيجة لحركة الجبهة المدارية من الشمال إلى الجنوب، ففي هذه المنطقة تتكثّف أسراب السردين التي تستقطب باقي عناصر السلسلة الغذائية من المفترسات، كالطيور البحرية وأسماك القرش والحيتان وأسماك السيف، مما جعل المياه الموريتانية تحتضن تنوعا بيولوجيا غنيا وفريدا من نوعه.
المحميّة والشّعاب المرجانية:
من العوامل الأخرى التي تُسهم في هذا الغنى والثراء بالأنواع البحرية، وجود محمية حوض آركين التي تُعتبر واحدة من أكبر المحميات البحرية في شمال إفريقيا، يُحرّم فيها صيد القوارب ذات المحركات، وتلعب دورا هاما في المحافظة على التنوع الأحيائي في المياه الموريتانية، حيث تشكل موئلا للعديد من الأنواع البحرية، تفِدُ إليها للغذاء والتكاثر. وتشكل الأعشاب البحرية التي تزخر بها المحمية دورا هاما في الإنتاج الأولي وغذاءً للكثير من الأنواع البحرية كالأسماك والثدييات والطيور البحرية؛ ففي دراسة علمية2 تبين أنّ كل 140 كلم مربع من الأعشاب البحرية في قرية "إيويك" بحوض آركين تأوي حوالي 400 مليون من صغار القشريات.
كذلك من عوامل الغنى الأخاديدُ البحرية التي تؤوي الشّعاب المرجانية، حيث اكتشف في موريتانيا مؤخرا على سفح المنحدر القاري وعلى طول أكثر من 400 كلم وعمق 600 متر واحدة من أكبر الشعاب المرجانية في المياه الباردة العميقة في العالم3 وتُوصف الشعاب المرجانية في الأدبيات العلمية بأنها "مهندسو النظام البيئي" نظرا لدورها الكبير في إغناء المنطقة وما تستقطبه وتحتضنه من تنوع بيولوجي كبير.
اجتمعت هذه العوامل البيئية الفريدة وغيرها في المياه الموريتانية فصارت بذلك واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك، لكنّ السؤال الواردَ هنا في مُقابل هذا الثراء بالأنواع البحرية هو: أين الإنسان الموريتاني من كلّ هذا الغنى؟
تقديراتُ الثروة السمكية:
تزخر الشواطئ الموريتانية بالعديد من الأنواع البحرية من أسماك ورخويات وقشريات وأنواع أخرى، ففي المياه الموريتانية وفي بيئة فريدة، يلتقي الأخطبوط مع الكُوربين وسمك موسى وأسماك القرش والحبّار وسلطان إبراهيم والنّازلي والجمبري وأسماك السّردين وجراد البحر والأنشوفة وأسماك التونة وسمك البوري والمرجان وغير ذلك من الأنواع البحرية النّبيلة وأخرى دون ذلك، وتتراوح القدرة الإنتاجية السنوية من الثروة السمكية الموريتانية ما بين 1.5 إلى 1.8 مليون طن4 يمكن صيدها سنويا من أسماك السطح والأعماق مع المحافظة على قدرة المخزون في التجدد بشكل طبيعي.
إن هذه الوفرة الفريدة والقدرة الإنتاجية المُعتبرة ظلت في منأى عن الاستغلال المُثمر، فأغلب الموريتانيين، خصوصا سكان المناطق الداخلية، لم يتذوقوا في حياتهم من أسماك هذا البحر المعطاء سوى أنواع غير نبيلة وفي السنوات الأخيرة فقط، ولا يعرفُ الموريتاني إلاّ بضعة أنواع تعدُّ على أصابع اليد من بين أكثر من 700 نوع بحري، كما أنّ هذا الموريتاني أيضا لا يعرفُ شيئا عن الرخويات؛ وهي ألذُّ الأنواع البحرية وأشهاها على الإطلاق.
ثقافة غذائية فقيرة على ضفاف بحر زاخر:
هذه الحالة ما هيّ إلا نتيجة الثقافة الغذائية البدائية لدى الموريتاني؛ ثقافة تنظر إلى شكل السّمكة الخارجي كواحد من أهم عناصر الاختيار لتكون على مائدة الطعام، فإن كان النوع البحري لم يُعط حظُّا من جمال الشكل كالأخطبوط مثلا، فإنه حرام على موائد الموريتانيين، رغم أنه لحم طريّ غنيُّ بالبروتينات يُسيل لعاب اليابانيين والأوربيين وغيرهم من الشعوب ذات الثقافة الغذائية السليمة، لذلك يُصدّرُ الأخطبوط الموريتاني للخارج بنسبة 100% تقريبا، ويُقدّم على الأطباق العالمية كواحد من أطيب وأشهى المأكولات البحرية، مما زاد من قيمته المادية فاستقطب أغلب نشاط الصّيد الموريتاني وجلبَ المال الوفير، ففي إحصائيات للشركة الموريتانية لتسويق الأسماك SMCP لسنة 2017 تم تصديرُ أكثر من 38 ألف طن من الأخطبوط بقيمة تجاوزت أكثر من 117 مليار أوقية!
إن هذه الثقافة البحرية الفقيرة ألقت بظلالها الوارفة على علاقة الموريتاني بالبحر ونظرته لثروته السمكية مقارنة بباقي الثروات الحيوانية، ولعلّ من الأمثلة الرمزية الدّالة في هذا السّياق ما كان من صُوّر الحيوانات المطبوعة على العملة الموريتانية الجديدة، فحين أصدرت الدولة الموريتانية عملتها النقدية الجديدة جيءَ بالغنم والبقر والإبل مطبوعا على الوحدات النقدية والأوراق من الفئات العليا وبسمكة وحيدة على أصغر قطعة نقدية وأقلها قيمة (خمس الأوقية 1/5) ، مما يعني أن صورة تلك السمكة المسكينة الحزينة، لن تعْلق بوجدان أحد من الموريتانيين، فخُمس الأوقية بحكم واقع السوق الموريتانية شيء تافه لن يظهر في التداول اليومي للقطع النقدية.
أما التصنيع وتطوير المنتوجات البحرية فيكفي من بؤس حاله أنّه من بين آلاف أطنان الأسماك يتم صيدها سنويا، لم تستطع موريتانيا بعدُ أن تُصنّع من تلك الكميات الهائلة من الأسماك علبة سردين واحدة لا يتجاوز وزنها بضعة غرامات؛ إنّ هذا حقا لشيء عجاب!
وحتى مهنة الصّيد بقيت في منأى عن الموريتاني، الموريتاني الذي نقّب في باطن الأرض بحثا عن المعادن، وطَار إلى كل بقاع الدُّنيا تتبُّعا لكل أصناف الرّزق لا يزال عاجزا عن امتهان حرفة الصيد والضّرب في مناكب البحر استغلالا لثروة سمكية مُتجدّدة أنهكتها الأساطيل الأجنبية، تقبضُ منها حيث تشاء وكيفما اتّفق!
إنها باختصار المفارقة الحزينة المستلقية أبدا على هذا الجزء من المحيط الأطلسي، إنه ثراء البيئة وفقر الإنسان، وليس في الأفق القريب ما يُبشّر بزوال هذه المفارقة؛ فالثقافة البحرية للإنسان الموريتاني لا تزال ضحلة فقيرة، سواء في أصل النظرة للبحر وأسماكه، أو في الثقافة الغذائية المُوغلة في استهلاك اللحوم الحمراء، كما أنّ تسيير الثّروة السمكية لا يزال يطبعُه التّعثر، والشواطئ التي كانت تُوصف في الأدبيات العلمية بأنها من بين الشواطئ الأغنى بالأسماك يتهدّدها اليوم الاستغلال المُفرط وتستقطب عشرات الأساطيل، من الرّوس إلى التّرك إلى الأوربيين والصّينيين والأفارقة وغيرهم من أمم الدّنيا، ممّن دفعهم نفادُ المخزونات السّمكية في مياههم البحرية للصّيد المكثّف في المياه الموريتانية، ولاتزال عالقة في الذهن تلك الصورة الحزينة لمذبحة أسراب سمكة الكوربين، قبل أكثر من سنتين في فيديو قصير تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي لسفن صيد تركية ألقت بشباكها الدّوارة على أسراب بريئة من أسماك الكوربين قادمة للمياه الموريتانية في موسم تكاثرها.