كل المسيرات تعود بنا إلى النقطة صفر.
ـ صورة من الواقع!
فورة حماس عارمة، أحلام فسيحة كالأفق، وغضب يسد الطريق أمام التخطيط ووضع الاستيراتيجيات، وتحديد الأهداف بدقة، وتخيل الرؤية بوضوح. قنابل عنترية تملأ الأسماع "تعمار اشدوك". وعيد ووعيد ووعيد!
ثم تخوين، ومتاجرة، وانشقاق، دون تشكيل قاعدة شعبية صلبة، أو تأسيس نظرية مدعومة بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، وتقاتل على المكاسب قبل خوض غمارِ النضال، ثم لجوء إلى القبيلة والجهة، ورضى من الغنيمة بالإياب!
ـ فما هو السبب؟
ينظر الحرطاني "المثقف" أو "المتعلم" بإعجاب إلى كل الذين باعوا القضية بمنصب وزاري شكلي أوغيره؛ بل إنه يسميهم الزعماء. ياللهول! ويستميت في الدفاع عنهم، ويتمثل تجربتهم كنموذج، ويتخذهم قدوة من بين كل العظماء الذين غيروا مسار البشرية وزادوا مساحة العدل والسلام في العالم، وسواء أعلن عن ذلك بشكل صريح أو أضمره؛ فإنه يبقى بإمكانك قراءته من تصرفاته ومسيرته المرتبكة.
ـ الضحية.. الضحية!
شاب حرطاني طيب. تسرب من المدرسة مبكّرا. يلتحق بالميدان مفعما بالأحلام غير الوردية. مدفوعا برغبة التحرر من واقع الظلم المرّ الذي يرزح تحت نيره. يتلقفه الزعيم. يشحنه حتى يصبح (الزعيم) كل شيء في حياته، قد يخسر علاقته بذويه الأقربين، وعمله؛ وبالتالي يتخلى عن مسؤولياته الاجتماعية، وينخرط في صفوف الحركة أو المنظمة؛ٍ كجندي "والجندي لا يفكر"؛ إنما ينفذ الأوامر وتكون مرتبته في النضال بدرجة إخلاصه لشخص الزعيم، وإيمانه به، وتقديسه له، وكيل الشتائم ل"لاستعباديين" و"الجواسيس". لا يتلقى في الحركة أي تكوين.. لا يكسب أي مهارة، ولا يحظى بأي تعلم، وبعد سنوات من الضياع قد ييسر الله له موقفا أو تراكم مواقف يوقظه من سباته على حقيقة زعيمه البشعة، البعيدة كل البعد عن صورته الموجودة في مخيلتٍه هو فقط. يخرج حينها من الحركة غاضبا أشد الغضب، دون أن يتعلم سوى المتاجرة وخيانة الرفاق، وتتلبّسه حالة من الشك المَرَضِيّ المزمن في نوايا الناس، فإما أن تصيبه عدوى جنون العظمة، ونادرا ما يسلم منها، أو أن يكون متاجرا ـ مع فارق في القدرات ـ أو هما معا. وفي النهاية يرتمي في أحضان مستعبديه بالأمس بكل مذلة وخنوع. ألم يفعل الزعيم ذلك قبله ويفعله ـ عند الحاجة ـ على الدوام؟!
ـ الحائرون!
بعد أكثر من أربعة عقود من تأسيس أول حركة تعنى بالنضال ضد العبودية، مازال الحرطاني بحاجة للاستناد إلى غيره؛ حتى يعتدل واقفا في مواجهة الحياة، مازال لا يملك الجرأة الصارمة والخالية من العقد على الاعتزاز الحقيقي بذاته؛ مازال لم يبلغ بعد درجة الإيمان الطبيعي بالذات؛ درجة الثورة الواثقة بقوتها؛ قوة الفكر، والعلم، والتحرر، والتسامح الذي لا تشوبه شائبة مذلة؛ مازالت عاطفته أكثر نشاطا من عقله، وشعوره بالظلم أقوى من نزوعه إلى الرفض.
أمام هذه الحالة البائسة تقف نخبة مبعثرة من الحائرين العزل إلا من صدقهم وانقطاعهم إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، أتمنى من كل قلبي أن يزيد عددهم وتتوثق الصلة بينهم وغيرهم من الوطنيين الصادقين من بقية مكونات المجتمع الموريتاني؛ حتى يشكلوا بؤرة ضوء تضيء الطريق إلى المستقبل.