مجلة الجديد: هيثم الزبيدي( كاتب عراقي )[نُشر في 01/05/2018، العدد: 40، ص(160)]
نزار قباني شاعر مبدع فهم مبكرا ماذا تعني حرية المرأة في مجتمع يتلمس طريقه نحو التنوير. خاطب المرأة بأحاسيسها فوصف على لسانها عالما سريا في شرق تعوّد على القمع السياسي والعاطفي معا. استنطق النساء ليتحدثن عن كبتهن، ولم يقع في فخ الشعراء المعتاد عندما يتغزلون بالمرأة كما يراها الرجل. هذا الحالم الذي تعرفنا عليه شبابا، نبهنا إلى الفرق بين مشروع الحداثة كقضية تنموية اقتصاديا وسياسيا، وأن تكون المرأة في قلب هذا المشروع.
دواوين نزار الجميلة هي التسجيل الكامل لتاريخ ما لم يحدث في العالم العربي. هي تسجيل لخطورة الحلم ولنتائج ضياع الأمل. يا لها من قصائد جميلة تصف الكارثة. شاعر ناجح رحل قبل 20 عاما حاملا معه الفشل إلى القبر.
عصف الألم مبكرا بقلم نزار قباني، عندما قررت اخته الانتحار احتجاجا على تزويجها بغير من تحب. انتبه لقسوة المجتمع مع المرأة. اخته اختارت الانتحار الجسدي فاستفزت في نزار القدرة على رصد انتحار اجتماعي شامل تمارسه النساء بحق أنفسهن احتجاجا على ظلم الرجال.. والنساء.
تلقف الجميع شعر نزار في فترة مهمة من تاريخ صعود الوعي في العالم العربي، في بدايات مرحلة الاستقلال والتعليم. اكتشف العرب أن هناك رومانسية مفقودة تماما في حياتهم جاء هو ليتحدث عنها. شعر نزار ليس شعر القيان والجواري الذي يؤنس الجالسين، بل هو شعر يصف عالم الشريك الغائب وأحاسيسه.
مع كل وجبة شعرية كان نزار يقدمها، كانت شهية المتلقين تزداد. صار جزءا من ظاهرة النهضة التي طبعت الخمسينات والستينات من القرن العشرين؛ كلام بسيط بلا عقد ولا تكلّف، كلام يتحدى ويستثير. كان نزار يريد أن يصبح شعره وصفة اجتماعية للتحرر والخروج من الظلم الاجتماعي للمرأة. كانت مراهنته كبيرة: نصف المجتمع على الأقل، ممثلا بالنساء، وجزء لا يستهان به من الرجال. لا بد أن زمنا مرّ على نزار، المصلح الاجتماعي، وهو يرى أن أحلامه في طريقها إلى التحقق.
لكن قدر الشرق الأوسط كان له ولنا بالمرصاد؛ تحطم كل شيء.
شعر الأمل صار الآن شعر الكوارث.
لم يكن نزار من دعاة الديمقراطية، لكنه شاهد كيف يمكن أن تأخذ الدكتاتورية شعوبا مغمضة العينين إلى الهزيمة. سجلت دفاتره الشعرية نكسة 1967. كانت قصائده انتقاما شخصيا له، لِمَا شاهده يحدث في بلده سوريا، وما شهده يحدث في شريك الوحدة والانفصال والهزيمة مصر.
موعد آخر لا يقل مآسي كان في لبنان. رئة الثقافة والحرية في العالم العربي اختنقت بدخان الفصائل الفلسطينية التي جاءت لتصبح طرفا في حرب أهلية مؤجلة منذ عام 1958. أحرق العرب بيروت بنيران مختلفة، سياسية وطائفية وعبثية، لتتدرج الحرب الأهلية وتصل إليها إسرائيل ثم تأتي إيران.
لعل نزار ضرب موعدا مبكرا مع ما صار مشهدا يوميا في عالمنا العربي. الهجمات الانتحارية التي تعصف بمدننا وبلادنا الآن، كانت بدايتها في بيروت. شاهد نزار زوجته بلقيس وهي تُسْحَق في تفجير انتحاري شنه شخص لعله الثمرة الأولى للمرحلة الجديدة من الإسلام السياسي. زرعت إيران الأحقاد فأثمرت قنبلة دمرت السفارة العراقية في بيروت وأخذت معها بلقيس، قلب نزار العراقي.
شهد نزار تبدل حال المرأة؛ فماراثون التحرر الطويل الذي شاركت فيه المرأة العربية، شكلا وعقلا وزيّا، تلاشى تأثيره أمام هرولة قصيرة المدى نحو الانغلاق والحجاب والنقاب. خسر نزار الماراثون وفاز الإخوان بالهرولة. بدلا من تنوير عقل المرأة ومحيطها صارت ترى نفسها أو تريد الناس أن يروها كما وصفها زعيم إخواني معروف: ثُريَّا في البيت.
لم يحضر نزار غزو العراق والربيع العربي والدمار الذي انتشر في عالمنا، لكنه شاهد بوادر هذا الدمار في أزقة بيروت، حربا أهلية وغزوا وسيطرة للميليشيات وانتهاكا لكل ما هو جميل في حياتنا. لم ير دمار حلب والموصل، لكنه عاش وتجول في وسط بيروت المدمر. لم يشهد الدبابات الأميركية وهي تدخل بغداد، ولكنه شاهد الدبابات الإسرائيلية وهي تطوق بيروت. لم تفته مشاهدنا اليومية الآن، لأن مراحلها الأولية كانت بيننا منذ فترة.
ما كان لقلب نزار الضعيف أن يتحمل كل هذه المآسي فاستبق الرحيل. كانت الصدفة التي دفعتني إلى لقائه في آخر أيامه في ردهة مستشفى في لندن شهادة على ما وصل إليه حالنا معه. ما كان المريض المصري الذي شاركه آخر أيامه في الحياة يدري أن الشخص الذي يتمدد في السرير المجاور، لا هو ولا زوجته، هو نزار قباني شاعر المرأة. هكذا تكتمل المأساة وتضيع ذكرى الإنسان حتى قبل أن يموت.
رحل نزار مبكرا، عندما رحلت أحلامه. رحل عن دمشق وعن بيروت. رحل عن العروبة التي تغنى بالانتماء إليها. اختار الرحيل الأخير من بعيد، من منفى النفس والمكان.
تلخص حياة نزار قباني صعود ونكبات واضمحلال جيل الأمل في الدولة العربية الحديثة.