ما إن تغير اسم "يثرب" حتى أضحت محطّ رحال الكل ومُشرأبَّ أعناقه.. هناك تسابق العرب فرادى وزرافات.. هناك أذعنوا وقدّموا البيعة والولاء لدين الله المرتضى.. هناك وقّعوا عهود السلم ومواثيق السلام.. هناك قضوا كل أوطارهم (مادية ومجردة)..!
احتفظت الذاكرة بالكثير من تفاصيل تلك الحكايات؛ وفعلا ظلت حكايات العام التاسع للهجرة (عام الوفود) غضة طرية كيوم ولدتها أمها؛ تماما مثل حكاية العام الأول للهجرة؛ حين كانت مضارب الخزرج تتزين لتتويج ابنها ملكا على "يثرب" وحوزتها؛ لكن فلق الحق كان الأقوى وكان الأبلج.. كانت رايات الهدى تمخر الآفاق خفاقة تتعالى على "الظل"..!
كانت أصوات أطفال "يثرب" –وهي تشدو بمنتهى البراءة "طلع البدر علينا"- تصكُّ آذان "حائكات التاج" بل ورأس التاج نفسه.. من هناك بدأت الحكاية؛ ليعيش "الملك المنزوع" بقية حياته تتنازعه "ثنائية الانتماء" بين مستقبل تمناه وسعى إليه وعوّل عليه.. وواقع فُرض عليه ولم يُستشر بشأنه..!
توزعت حياة "الملك المنزوع" بين لحظتين (اثنتين فقط): يسير خلف الواقع وخلف "العهد الجديد" بكل انسجام و"صدق" حتى ليخيّل إليك أنه ما برحه يوما.. ثم ما يلبث أن توسوس له تلك الطموحات التي انتُزعت منه وأُرغم على التخلي عنها ذات "ليلة" حالكة؛ ليبدأ في نفث سمومه (على طريق النميمة والنفث في الخفاء؛ لأنه دَفَنَ أخلاق الفرسان مع حلم عرشه)..!
ظلّ يتقيّأ تفاهاتٍ؛ منتقيا لحظات مفصلية في التاريخ وحاسمة.. فحرّض حلفاءه من بني النضير بقتال المسلمين، وعدم الصلح معهم؛ واعدا إياهم بالانتصار لهم.. وأثناء العودة من حرب "بني المصطلق" حاك مؤامرة دنيئة على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان صاحب نظرية "المسجد الضرار".. أما فلتات لسانه (وربما قلمه لو كان يكتب) فحدث ولا حرج؛ فهو من قال لرسول الله "إليك عني فقد آذاني نتن حمارك" وقال لعصبته: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" وتعريضه بالنبي –صلى الله عليه وسلم- "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ"..!
لكن تاريخنا مع ذلك حمل صورا ومواقف أخرى؛ أوحت بالكثير من قيم الفروسية والمروأة.. يقال إنه ذات منادمة بين معاوية بن أبي سفيان والأحنف بن قيس استذكر معاوية "يوم صفين" مبطنا لنديمه شيئا من العتب؛ لأنه كان يومها مع علي بن أبي طالب.. غضب الأحنف بن قيس (الذي كان إذا غضب غضب لغضبه مائة وخمسون ألف فارس لا يسألونه فيم غضب) وخاطب معاوية: يا معاوية إن القلوب التي كرهناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي حاربناك بها لفي أغمادها.. إن تدنُ من الحرب شبرا ندنُ منها ذراعا، وإن أتيتَها مشيا أتيناها هرولة.. (انتهى الاستشهاد).
أخلاق الفرسان تستلزم الصدق والشجاعة دائما.. من هنا ليس منا من لا يدرك أن الأستاذ محمد محمود ولد أمات ورفاقه حين عارضوا عارضوا بكل مروأة وكبرياء.. فهل من اللائق أن نستسهل أن تكبو جيادهم وتتبدّل أخلاقهم وقد أنهوا الطريق وَوَكَزَهُم الشيب.. حاربَ أولئك الخُلّص كثيرا –وحاربنا معهم- حتى لا يُتوج "ملك يثرب" من جديد؛ لكننا (وهو شيء محزن ومخجل) قوم مَرَدْنَا على النفاق..!