كنت واقفا أمام النافذة، وكان الحر في الخارج يلفح الوجوه. الطرقات خالية من المارة إلا من القليلين الذين يسيرون في اتجاهات مختلفة، منهم من يقصد عمله ومنهم من اضطرته حاجة ملحة للخروج ومواجهة حرارة صيف استثنائية. سيارات على قلتها تجوب الشوارع تحمل من لا طاقة له على تحمل هجير صيف هذا العام. أما أنا، فكانت تلفحني نسمات برد المكيف المواجه لي، وكنت سارحا بخيالي في صورة تلك الجميلة، زورا، التي صارت تسيطر على مهجتي وكياني.
صورتها وإن لم تكن مكتملة فقد أكملتُ تفاصيلها بعناية من خيالي لتصبح أجمل ما تكون امرأة، لا تشوبها شائبة ولا يمسها زيغ. ولما كنت أتأملها ملء العين وملء القلب رأيتها تقفز من حاسوبي وتقف أمامي. ربتَتْ على كتفي وقالت : “لا عليك لست وحدك، فأنا معك ولن أفارقك أبدا”.
خلتُ نفسي في البداية حالما، لكنني كنتُ بما يدور حولي عالما. وبقيت أتأمل عينيها البنيتين و شعرها الأسود الكث المتموج على كتفيها، وأدقق النظر في جمال خديها الورديين البلوريين علني أرى فيهما خيالي. أما هي فأطالت النظر إلي كأنما تشفق علي. لم أتجرّأ على بدء الحديث معها رغم أن صوتي مألوف لديها وصوتها مألوف لدي. تجمدنا في صمت وبقيت لغة العيون هي الرسول بيننا.
جمعت شجاعتي وروضت ارتباكي وطلبت منها أن تجلس إلى جانبي وتحدثني، وتسترسل في الحديث كَمَا وكيفما تشاء. تحلّى محياها بالحياء وبدا عليها الوجل. طأطأت رأسها ودنت مني وهمست كم تطرب لسماع صوتي و تتمنى أن أغني لها. رفعت عقيرتي بالغناء ورحت أنتقي من الألحان والكلمات ما يدغدغ العواطف والسرائر فرأيتها سعيدة منشرحة، و تلك كانت قمة سعادتي.
فجأة لعج البرق وقصف الرعد وبدأت حبات المطر تتساقط، فألقيت نظرة سريعة على الشارع مستبشرا بما هطل. لكن لما استدرت لأتابع الغناء متحديا زوبعة الخارج، لم أجد لزُورَا أثرا. بحثت عنها بلهفة في كل أركان الغرفة ومخابئها. فتشت كالمجنون في الأدراج والرفوف فلم أفلح في العثور عليها. يئست وشككت أن البرق خطفها مني فطارت في لمح البصر. تنهدت وفاضت عيناي بماء العبر، وتمنيت لو لم يسقط مطر.
لما تعرّقت، انتبهت أن الكهرباء مقطوعة.