الدكتور عماد البشتاوي
يدور في ذهن المواطن العربي مجموعة من الأسئلة : ما الفرق بين ديكتاتورية اردوغان والديكتاتوريات العربية؟ وهل من الممكن أن يكون الديكتاتور محبوباً؟ و هل الديكتاتور يحقق لشعبه انجازات ؟ و لماذا لم تقدم ديكتاتورياتنا العربية لشعوبها إلا التخلف و التمزق و الفساد و الاغتراب السياسي؟ الإجابة المختصرة على ذلك من خلال الفرق الجوهري الذي يتمثل في أن الديكتاتوريات العربية – و بحكم ظروف ذاتية و موضوعية : من حيث طبيعتها و تركيبتها البنيوية و مراحل تطورها و دور الدول الكبرى في إنشائها أو دعمها – تشعر بأن قوتها بمقدار كبت شعوبها وإغراقها في مشاكلها و همومها اليومية و الحياتية وفرض سياسة الخوف ضمن ثنائية ( الإلهاء و التخويف ) حيث يضمن النظام السياسي عدم المسؤولية و المساءلة من قبل الشعب , و بالتالي إحكام السيطرة على المواطن و الاستئثار بالوطن و ممتلكاته . أي جعل المواطن يراوح مكانه و رغيف الخبز و الحد الأدنى من الأمن والأمان أقصى أمانيه .
وفي المقابل فان ( ديكتاتورية أردوغان) ولا سيما بعد تحويل النظام السياسي من البرلماني الى رئاسي, ليس لشيء إلا من أجل الاستمرار في الحكم لأطول فترة ممكنة, بصلاحيات رئاسية مطلقة, ومن هنا أطلقنا عليها ديكتاتورية – على الرغم من الانتخابات و التعددية الحزبية في تركيا – نقول بأن ( دكتاتورية أردوغان ) تقف على النقيض من الدكتاتوريات العربية من حيث أن أردوغان يشعر بأن قوته و عظمته هي من قوة و عظمة تركيا و بمقدار ما يحقق للشعب التركي من رفاهية و كرامة بمقدار ضمان بقاءه في الحكم .
مرت تركيا الاردوغانية – منذ وصول أردوغان ( حزب العدالة والتنمية) إلى رئاسة الوزراء عام 2003- بسلسلة من التطورات التي تبدو للوهلة الاولى متناقضة و مضطربة , لكنها في واقع الحال تعكس طموحه الشخصي وذلك للوصول بتركيا للهيمنة الإقليمية وفي نفس الوقت تكريس زعامته المطلقة لهذه الدولة (القومية الدينية الاسلامية العلمانية الشرقية الأوربية التاريخانية الحداثوية ) وهي متناقضات استطاع أردوغان جمعها, و التحرك بها ومن خلالها .
نعم لقد نجح أردوغان داخلياً بالارتكاز على ثنائية (الخطاب الشعبوي والانجاز الاقتصادي) وأعتقد أن هذه الثنائية هي وصفة النجاح للنظام السياسي بغض النظر عن كيفية وصوله للحكم ثورة أو انقلاباً أو انتخابات.
تمكن أردوغان من تحويل و نقل تركيا من بلد فاشل اقتصادياً و متقوقع سياسياً و مقموع دينياً, الى موقع متقدم في مجموعة دول العشرين الأقوى اقتصادياً , و على الصعيد الاقتصاد الداخلي فقد توسعت الطبقة الوسطى بشكل كبير، و تراجع عدد الفقراء، و تحسنت حياة الأتراك بفضل المشاريع الكبرى و الخطط الاستراتيجية و الرؤى الواضحة , كما وجد الأتراك المتدينون متنفساً لهم في عهد أردوغان , بعد أن همشوا من قبل النخبة العلمانية العسكرية . وفيما يتعلق بالنخبة العسكرية فقد احكم أردوغان سيطرته على المؤسسة العسكرية, و قد بدا ذلك واضحاً و جلياً بعد( انقلاب)أحداث 15-16 تموز 2016 , حيث مارس أردوغان ذكاء في التعامل مع هذه الأحداث من ناحيتين :
أولاً : عندما طلب من المواطنين الأتراك النزول الى الشوارع لمواجهة (الانقلاب) و التصدي له, أي أنه كان على استعداد لإدخال تركيا في حرب أهلية للدفاع عن حكمه ( تحت ذريعة الدفاع عن الشرعية ), و في نفس الوقت إرسال عدة رسائل لعدة جهات – داخلية و خارجية – حول قوته و التفاف الشارع التركي حوله. وهذا ما بنى عليه لاحقاً في موضوع الاستغلال الذكي لعامل الزمن والتوقيت في موضوع الاستفتاء, و هذا ما قاد البعض إلى اعتبار أن (الانقلاب ) هو خدعة و مسرحية أردوغانية , من أجل التخلص من المعارضين – المدنيين و العسكريين – وتعديل الدستور وإحكام السيطرة على النظام السياسي التركي بجميع مفاصله, من خلال منح منصب الرئيس صلاحيات مطلقة , و هذا لم يكن متاحاً لولا محاولة الانقلاب الفاشلة.
لقد تحول أردوغان و بعد ساعات قليلة من رئيس كاد يفقد السيطرة على الحكم و البلاد الى زعيم لا يمكن مواجهته , و الشيء الآخر المهم هنا أنه و لأول مرة يقوم الشعب التركي بالوقوف ضد انقلاب منذ إنشاء تركيا الحديثة ,علماً بأن الدولة التركية شهدت عدداً من الانقلابات – قبل وصول حزب العدالة و التنمية للحكم – كان الشعب التركي يقف تجاهها موقف المتفرج.
ثانياً: استغلال موضوع (الانقلاب) من أجل الاستفتاء على تعديل النظام السياسي من البرلماني الى الرئاسي, مستفيداً من حالة التعاطف معه, و متذرعاً بالرغبة بالدفاع عن الديمقراطية .
على الصعيد الاقليمي, نجد أن تركيا الأردوغانية تمددت بطموحاتها وتطلعاتها باتجاه المنطقة العربية, مستخدمة جميع وسائل و أدوات السياسة الخارجية الناعمة و الخشنة, إما من خلال اتفاقيات دفاع استراتيجي و عسكري مع( قطر), لمواجهة كلاً من (السعودية ومصر والإمارات و البحرين ), أو استئجار جزيرة سواكن- لأغراض سياحية و سياسية و عسكرية –من( السودان) , أو من خلال التمدد الأيدلوجي و المذهبي (الاسلام السياسي السني) في (مصر) بعد ثورة 2011 و في عهد الرئيس محمد مرسي , أو التدخل العسكري المباشر في كل من سوريا و العراق و ليبيا .
ومن الملفت في سياسة تركيا الاردوغانية تجاه المنطقة العربية أنها (دعمت) مطالب الشعوب العربية بالتخلص من حكامها – على الرغم من أنها كانت تقيم علاقات مميزة مع الأنظمة العربية الديكتاتورية قبل الربيع العربي – فأصبحت تركيا قبلة الربيع العربي و الثوار العرب , كما ان تركيا ترتبط بعلاقات وثيقة واستراتيجية مع اسرائيل وعلى أعلى المستويات , يضاف الى ذلك ان تركيا لم ترفع شعار دعم المقاومة أو دعم المقاومة فعلاً – كما فعلت بعض الدول مثل إيران – ولم تضغط على إسرائيل ضغطاً حقيقياً و فعلياً على الرغم من جميع الانتهاكات و التجاوزات التي قامت و تقوم بها إسرائيل , و على الرغم من كل ذلك, نجد أن إعجاب جزء من الشارع العربي باردوغان لم يتزعزع . فكيف نفسر ذلك؟
ومن خلال تتبعنا لتحركات أردوغان الإقليمية , فنجد أنه امتاز بانقلابه و تقلباته في الملفات الإقليمية, و بعلاقاته مع دول وأنظمة كانت حليفة الأمس, ولاسيما عند حديثنا عن علاقاته المميزة مع بشار الأسد, و كذلك مع معمر القذافي حتى عام 2011 , وفجأة انقلب عليهما بل و رمى بكل ثقله في هذين البلدين و تحديداً ضد هذين الحليفين .
إن صفة الانقلاب و التقلب في العلاقات هي من أهم سمات الديكتاتوريات بشكل عام وأردوغان بشكل خاص , فقد انقلب على زعمائه الفكريين وآبائه الروحيين من نجم الدين أربكان إلى فتح الله غولن , بالاضافه لانقلابه على رفاق دربه في حزب العدالة و التنمية لاسيما الرئيس التركي السابق (عبد الله غول) ووزير الخارجية 0أحمد داود أوغلو) الذي انشق مؤسساً حزباً جديداً (حزب المستقبل) و (علي باباجان ) وزير الاقتصاد و الذي شكل أيضاً حزباً جديداً هو حزب الديمقراطية والتقدم.
أخيراً نستطيع القول ان السياسة الخارجية لتركيا الاردوغانية , تسير بطريقة تصاعدية وتصعيدية، ففي البداية تبنت سياسة خارجية تقوم على (دبلوماسية التصفير) أي صفر مشكلات على قاعدة خفض المشكلات الى درجة الصفر سواء مع الدول القريبة أو البعيدة , ثم انطلقت الى ( الدبلوماسية الاستباقية) أي التدخل لحل المشكلات في محيطها المباشر و القريب , و أخيراً و بعد الربيع العربي اتبعت تركيا (الدبلوماسية الخشنة ) مستخدمة جميع الوسائل لتحقيق أهدافها بالتمدد .
أستاذ العلوم السياسية
جامعة الخليل – فلسطين