الزهرة انفو ... نتابع الحديث الشيق الذي خص به العلامة الشيخ/ محمد الحسن ولد الددو موقع الجزيرة نت ,وكنا قد نشرنا الجزء الاول من تلك المقابلة ,وها نحن ننشر الحلقة الثانية منه اليوم :
فأهدت إليّ إحدى النساء لوحاً كُتبت لي فيه حروفُ التهجي، ودرّستها لي عمتي في فترة قصيرة، ثم بدأت قراءة القرآن برواية ورش (ت 197هـ/812م) عن نافع المدني (ت 170هـ/785م) وأكملت حفظه في نهاية السابعة من عمري.
حينها كانت عادة الناس عندنا أن الأطفال الصغار يُبدأ تعليمهم ببرنامج بدوي يسمى "تمييز الْمامي" نسبة إلى مبتكره وهو العلامة محمد الْمامي الشنقيطي (ت 1292هـ/1876م)، و"التمييز" عندهم معناه قدرة الطفل على التفريق بين أقسام الكلام: الاسم والفعل والحرف. وبرنامج "تمييز المامي" هذا عبارة عن تعليم اللغة العربية للأطفال على وجه يتناسب مع مستواهم العمري ومدارك عقولهم، يتولى تعليمَهم إياه الأمهات ويكون وقت تلقيهم هذا البرنامج بين المغرب والعشاء.
ومن نماذج هذا البرنامج أن الأم تقرأ بيتا شعريا -أو آية قرآنية أو حديثا نبويا- على الأطفال فيحفظونه، ثم تبدأ تسألهم فيما يتضمنه من معانٍ مختلفة، فمن أوائل أبيات الشعر التي يُمتحن بها الأطفال في برنامج "تمييز المامي" قول البوصيري (ت 696هـ/1295م):
قد تُنْكِرُ العَينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ** ويُنْــكِرُ الفمُ طــعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
فهذا البيت شطراه متطابقان من ناحية الإعراب النحوي؛ فالأم تسأل أولادها أسئلة وكلما أجابوا على أحدها طرحت عليهم الذي بعده حتى تنتهي الحصة التعليمية. فتسألهم مثلا عن كلمة "قد" الواردة في البيت السابق: ما "تمييزها".. هل هي اسم أو فعل أو حرف؟ وهل هي مُعْرَبَة أو مَبْنِيّة؟ وعلى أي شيء تُبنَى: هل على سكون أو حركة؟ ثم تسألهم الأم عن معنى حرف "قد" فتعلمهم أن له ثلاثة معان (التقليل والتقريب والتحقيق)، ثم تسألهم عن عمله نحويا.
ثم تتجاوز الأمُّ حرف "قد" إلى الكلمة التي بعده في البيت المتقدم وهي "تُنْكِرُ"؛ فتسألهم: هل هي اسم أو فعل أو حرف؟ فيقولون مثلا: "فعل"، فتسألهم: أي أنواع الفعل الثلاثة؟ وهل هو فعل مُعْرَبٌ أو مَبْنِيّ؟ وما إعرابه؟ وما علامة إعرابه؟ ثم تسأل الأم عن أصل مادة هذا الفعل "تُنْكِرُ"، وعن عدد مفردات اللغة التي تتألف من احتمالات تركيب حروفها (وهي ستة: نَكَرَ – نَرَكَ – كَرَنَ – كَنَرَ – رَكَنَ – رَنَكَ)، وتسألهم عن معنى كل مفردة منها وهل هي مهملة أو مستعملة.
فهذا ملخص لبعض ما يدور في الدرس الليلي المخصص للأطفال، فتارة يجيب الأولاد بالصواب وتارة بالخطأ، وتصحح لهم أمهم ما أخطؤوا فيه. ولا أزال أذكر أن أمِّي -حفظها الله- ألقت علينا بيتا ونحن صغار، وهو قول الشاعر:
شَجاكَ أظُنُّ رَبْعُ الظاعنينا ** ولمْ تَعْبأ بقولِ العاذلينا!
فـ"ميّزتُ" أنا البيتَ، فقلت: "شجاك" فعل ماض فاعله ضمير مستتر ومفعوله الكاف، فضحك أخواتي مني لأنني أخطأت لأن كلمة "شجاك" مصدرٌ مضافٌ وليست فعلا؛ وما زلت أذكر بكائي لتأثري من ضحكهن من خطئي!
وفي هذه السن يتعلم الأطفال بعض الكتب المخصصة لهذه المرحلة، وقد درسنا فيها منظومة "الآجرومية" في مبادئ علم النحو، ولا أذكر الآن هل حفظناها مكتوبة في الألواح الخشبية أو في الورق. وبعدها درسنا "مختصر الأخضري" في الفقه، وقد ابتدأه مؤلفه ببعض المبادئ والقيم العامة في الإسلام ثم ذكر فيه أحكام الطهارة والصلاة.
قصص وأشعار
وفي هذه الفترة أيضا يتعلم الأطفال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسماعهم لقصص السيرة من أمهاتهم؛ ففي كل ليلة يسمعون قصة، وبعض القصص تكون طويلة بحيث لا تستوعبها حكاية واحدة فتقسم بين ليلتين ويتعود فيها الأمهات على "المواقف"، أي أن التوقف أثناء سرد قصة غزوة بدر (سنة 2هـ/624م) مثلا يكون عند الموقف كذا؛ فهناك موقف عند قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، وموقف عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرَّوحاء (= مكان قرب المدينة على طريق مكة)، وهكذا فالمواقف معروفة المواضع.
وهذه القصص ترويها الأمهات باللهجة الحسانية السائدة بموريتانيا، ومنها يتعرف الأطفال على أسماء الشخصيات (رجالا ونساء) وأنسابها؛ فقد سألني -وأنا صغير- أحدُ أخوالي: هل تعرف عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م)؟ فقلت: نعم، أتانا قبل كذا! لأني كنت أتصور أنه جاءنا ضيفا، فنحن صغار نعرف أنه يكنى بأبي عبد الرحمن ونسوق من حفظنا نسَبَه إلى آدم عليه السلام.
ثم إننا نعرف أن أمه هي زينب بنت مظعون الجُمَحِية ونعدّ نسبها إلى أن يلتقي مع أبيه عمر، وأن أم أبيه هي حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهذا مكان التقائها مع أبيه. ونعرف أنه هاجر به أبوه صغيرا، وأنه بلغ في السنة الثالثة من الهجرة عندما كان عمره أربع عشرة سنة.. إلى آخر المعلومات الواردة عنه، وقد تعوّدنا عليها حتى كأننا نعرف عبد الله بن عمر بشكله وهيئته، وهكذا يتعرف الأطفال على كل الصحابة بهذه القصص.
ثم إن هذه القصص ترِد فيها أشعار، وهذه الأشعار أيضا يُلزَم الأطفالُ بحفظها سواء كانت من قصائد حسان بن ثابت (ت 54هـ/673م) في غزوة بدر أو في غزوة أحد (سنة 3هـ/625م)، مثلا قصيدته المشهورة التي مطلعها:
مَنَعَ النَومَ بالعشاءِ الهُمومُ ** وخَيالٌ إِذا تَغورُ النُجومُ
وقصيدته في فتح مكة:
عَفَت ذاتُ الأَصابِعِ فَالجِواءُ ** إلى عَذراءَ مَنزِلُها خَلاءُ
وكذلك قصائد كعب بن مالك (ت 50هـ/669م) وغيره من الصحابة، وفي المقابل يحفظون قصائد شعراء المشركين -قبل إسلامهم- كعبد الله بن الزِّبَعْرَى (ت نحو 15هـ/636م) وضرار بن الخطاب (ت 13هـ/634م) القريشييْن. وتتكون حصيلة الأطفال من السيرة النبوية بهذه القصص، ثم يتعرف على قصص الأنبياء عليهم السلام الواردة في القرآن الكريم، وأذكر أننا كنا نبكي بشدة عند سماع قصة يوسف عليه السلام وقصص أخرى، فكانت تؤثر فينا تأثيرا بالغا ونحن صغار.
يتبع ان شاء الله......
ولمَن فاتته الحلقة الاولى من المقابلة يرجى الضغط