تبرز الطبقية الإجتماعية في موريتانيا كظاهرة من بين أكثر الظواهر الإجتماعية إثارة للجدل ، بما كرست من تفرقة ، و بما أوجدت من تصنيفات تجاوزها الزمن .
والطبقية الإجتماعية في مفهومها هي تراتبية اجتماعية تقوم على تقسيم المجتمع إلى فئات اجتماعية حسب العرق أو النسب أو الوظيفة الموكلة إلى الفئة ، و توجد طبقية اقتصادية ..
و قد ظلت الطبقية الإجتماعية منذ نشأة المجتمعات إلى ظهور الدولة المدنية ظاهرة حاضرة في كل مجتمع ، تفرضها طبيعة الحياة الإجتماعية و التعاون بين أفراد المجتمع و فئاته ، بيد أن وجود الدولة المعاصرة قضى على هذه الظاهرة ، و أصبح التفاوت بين الناس يقوم على أسس أخرى لا علاقة لها بالطبقية التي أضحت بالنسبة للمجتمعات المتحضرة ظاهرة تاريخية يقرؤون عنها .
ويهمني في هذه الورقة البحث في تجليات هذه الظاهرة مطلب أول ، على أن أحاول البحث في مآلاتها في مطلب ثان
المطلب الأول : تجليات الطبقية في موريتانيا
لم تعرف هذه البلاد ما قبل الإستقلال قانونا ولا منظومة حكم رشيدة ، فلذلك لا يبالغ المؤرخون حين وصفوها ببلاد السيبة في تلك الفترة ، فقد كانت بالفعل كذلك و أكثر ، و بسبب غياب الدولة و الإدارة عن الوعي الجمعي يومها كان لابد من تأسيس منظومة بديلة ، تسد الخلل و تقوم بمهمة الدولة التقليدية ،و هي توفير الأمن الداخلي ، توفير الأمن الخارجي ، حل المنازعات .. التعليم .. الخدمة العامة .. وهنا برزت الطبقية الإجتماعية مقسمة المجتمع إلى فئات ، كل مجموعة اجتماعية تتولى وظيفة معينة ، فللزوايا التعليم ، و للعرب الدفاع و حمل السلاح ، على الحراطين الخدمة و وظيفة لمعلمين الصناعة أما ازناكة فوظيفتهم الرعي .
ويبدو من الجلي أن هذا التقسيم ليس عرقيا بقدر ما هو تقسيم وظيفي أملته طبيعة المرحلة و غياب دولة تقوم بهذه المهام والوظائف خصوصا مهام الدفاع و التعليم و القضاء
و استمر هذا التقسيم للمجتمع ، و ظلت العلاقات في إطاره مثل أي علاقات في أي مجتمع ، يطبعها التعاون والتكامل ، و لكن تنشب حروب هنا و هناك ، و ليس ذلك بأمر مستغرب في بلاد عرفت ببلاد السيبة ، تخضع العلاقات فيها للفوضى في ظروف اجتماعية أقرب لحياة العرب الجاهلية ما قبل الإسلام
و لئن كانت الحروب سنة حياتية لا تخلو منها الحياة في ظل العلاقات البشرية ، فإن الأمر المثير هو حجم الظلم الذي مورس ضد فئات شرائحية معينة ، لا يتعلق الأمر فقط بالعبودية ، _ وهي ممارسة مدانة و متجاوزة _ بقدر ما يتعلق بتشويه سمعة الآخر و نسج قصص من الأساطير حوله ، و تأليف أحاديث مكذوبة في ضرب سمعته لا لشيء إلا لأنه نافس في وظيفة التعليم ، يوم كان التعليم حكرا على جهة معينة ، فتم تسليط سفهائها و مهرجيها لنشر سيل من الخزعبلات ضد منافسيها ، و كان ذلك جزء من مرحلة من حياة موريتانيا اتسمت باحتكار المعرفة و الفضيلة و الشرف و الفتوة والصلاح من طرف فئة معينة ، تعتبر نفسها ” شعب الله المختار ” في هذا المجتمع ، و أنه تم اصطفاؤها ، و أن بقية الشرائح هي مجرد قطيع تابع لها .
ولا يمكن لوم هذه الفئة اليوم على ممارسات أجدادها المتخلفة ، فتلك أمة قد خلت ، ولكن عليها أن تعترف أولا بهذه الممارسات المؤسفة ، و عليها أن تدينها .
لقد ولى اليوم الذي تحتكر فيه وظيفة التعليم و أصبح بإمكان أي أحد أن يمارس هذه الوظيفة إذا ماتوفرت فيه شروط معينة تحددها قوانين الدولة الحديثة ، كما ولى احتكار الفروسية والشجاعة و أضحت حماية الشعب بيد القوات المسلحة الباسلة التي تتكون من كل فئات هذا الشعب ، و لم تعد الصناعة مرتبطة بفئة معينة بل أصبحت مهنة مستقلة تتطلب خبرة معينة و تكوينا خاصا في ظل إتاحة المجال لأي شخص من الشعب ليبرز مواهبه ، مهما كانت
وأما الخدمة والعمل فهي خاضعة لقانون الشغل ، لقد أصبحنا أمام قانون ينظم العمل التبعي المؤدى في إطار من التبعية و الرقابة و الإشراف ، ولم يعد بالإمكان هضم حقوق أي عامل أو الإستخفاف به ، وفي إطار ذلك أصبح العمل المؤدى ليكون في إطار القانون لابد من توفر جملة من الشروط فيه لعل أهمها الطوعية ، فلم يعد مقبولا في ظل الدولة المدنية العمل الجبري ، فالرضى ركن أساسي في العمل ، و إعدام الإرادة يؤدي إلى بطلان عقد العمل .
إذن أصبح العمل المؤدى في إطار من التبعية محميا بالقانون ، و أضحى العمال باعتبارهم أكبر شريحة اجتماعية محميون بمقتضيات قانون الشغل ، لأهميتهم الإجتماعية و الإقتصادية والسياسية ، و من المفترض أن تختفي _ في ظل هذه الإجراءات من الدولة _ تلك الممارسات المنافية للمساواة المكرسة للعبودية ، فهل نجحت الدولة في إنشاء مجتمع مدني أم أن التفرقة على أسس شرائحية مازالت قائمة ؟ وما هي مآلات الطبقية في موريتانيا ؟
لا يمكن للدولة أن تصوغ مجتمعا على هواها ، بل العكس المجتمع هو الذي يشكل الدولة وفق تراكمات فكرية و سياسية و اجتماعية و ثقافية واقتصادية حسب رأيي ، ففي انكلترا بلغت الديمقراطية أوج ازدهارها نتيجة تراكمات طوال عدة قرون من التوافق المجتمعي على منظومة عرفية معينة ، حتى أن الدستور الإنجليزي هو دستور عرفي غير مكتوب ، و القضاء فيها يحظى باحترام منقطع النظير ، فالقاضي العادي يمكن أن يحكم في القضايا الإدارية و حكمه يحظى باحترام الجميع و أولهم الدولة ممثلة في الإدارة .
إذا عدنا إلى موريتانيا نجد القبيلة و الشريحة سابقة على الدولة ، ولم تعتد منظوماتنا التقليدية على أي ممارسة ديمقراطية قبل وجود الدولة ، ولم تعرف إدارة ولا حكما رشيدا
كل ما هنالك ان القبائل كانت تحكم هذه البلاد في إمارات رجعية متناحرة ، فلما تأسست الدولة تم حكمها بنفس العقلية المتخلفة ، و بكل أسف لم تعرف موريتانيا مجتمعا مدنيا يمكن أن يؤسس للدولة العادلة ، كل ما هنالك هو أن بعض المثقفين والمتعلمين هنا و هنالك يرغبون في التغيير للأفضل ولكن لا يساعدهم عمقهم الإجتماعي ، و حتى الإداريين ورجال الدولة فمن أراد منهم أن يصلح مؤسسة او ينطلق من روح وطنية يتم الهجوم عليه من طرف مجتمعه ووصفه بالفاشل و الغبي لأنه لا يسرق المال العام !
ونستشف مما سبق أن البنية التقليدية الممثلة في الشرائحية مازالت قائمة ، بل لعلها اتخذت منحى أخطر باستخدامها أحيانا لوسائل الدولة في خدمة و تكريس أفكارها المتخلفة و ممارساتها البالية !
و هنا أنتقل إلى النقطة الأخيرة و هي مآلات الطبقية في موريتانيا
المطلب الثاني : مآلات الطبقية في موريتانيا
إن مستقبل الطبقية في موريتانيا مرتبط أساسا بمدى وعي هذا الشعب و مدى اهتمامه بالعلم و المعرفة ، و مدى رغبته في التغيير للأفضل و التخلص من عقلية التقسيم الطبقي السيء الصيت ..
لا يمكن أن نرقى إلى مصاف الدول المتقدمة مالم نقض على الطبقية في جانبها السيء القائم على احتكار الخيرية والأفضلية لفئة من المجتمع و اعتبار فئات أخرى لا خير فيها و لو كانت تخدم الأمة و الدولة !
لا بد من معيار جديد للخيرية .. إنه خدمة المجتمع و فداء الوطن .
الخيرية قديما كانت الإنتماء لعائلة معينة .. قبيلة معينة .. شريحة معينة .. أما الخيرية اليوم فهي : ماذا قدمت للمجتمع من معرفة و علم و فن
إن مآل الطبقية انطلاقا من تبني هذا المعيار للخيرية هو الزوال إلى غير رجعة .. غير مأسوف عليها
أما إذا ظل اعتماد معيار الخيرية و الأفضلية هو المعيار التليد الذي لم تقره شرائع و لم تعتمده قوانين ، المعيار الرجعي الذي وجد الموريتانيون آباءهم عليه .. فإن موريتانيا لن تشهد أي تغير للأفضل لا سياسيا ولا اجتماعيا و لا ثقافيا .. و ديدنهم في ذلك هو ماقاله كفار قريش : ” إنا وجدنا آباءنا على ملة و إنا على آثارهم مقتدون ” !
و كم ضل من يتبع أجداده على غير هدى من وحي و علم و معرفة و عقل !
فهل يفعلها الموريتانيون و يتخلصوا من منظومة اجتماعية تقف عائقا أمام تطور بلادهم أم يصموا آذانهم عن الحقيقة و يغلقوا أعينهم عن شمس الحقيقة رابعة النهار ؟!