تشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة (IEA) أن إفريقيا يمكنها أن تتفوق على روسيا كمورد عالمي للغاز في أفق 2040، كما تشير توقعات أخرى إلى أن قطاع الغاز الطبيعي المسال في أفريقيا قد يستقطب استثمارات بقيمة 103 مليار دولار مع نهاية عام 2019 ، ويدعم هذا التوقع حجم مشاريع الغاز الطبيعي المسال في القارة التي وصلت إلى مرحلة القرار النهائي للاستثمار (FID) خلال السنتين الأخيرتين، وهي سبعة مشاريع تصل طاقتها الإنتاجية إلى حدود 50 مليون طن من الغاز المسال سنويا.
وجود الغاز الإفريقي خاصة غاز سواحل الغرب الإفريقي في عمق الاستراتيجية الأوروبية للطاقة لا يبشر بخير، ويذكرنا بأيام لعنة الماس ، ولعنة معدن الكولومبايت -تانتاليات ( معدن الكولتان) ، و لعنة النفط الإفريقي بل إن اللعنة القادمة قد تكون أخطر دون أن نعرف أو نشعر بها لأن موقع الجريمة هو البحر، وقديما قيل " سرك في بئر" ، فما بالكم إذا كان السر في البحر.
إن المتتبع للتقارير الدولية وما يرشح من المعلومات عن ملف الغاز الإفريقي الذي يشكل حوالي 7.3 % من إجمالي الاحتياطي العالمي المؤكد من الغاز الطبيعي البالغ حوالي ( 6951.8 ترليون قدم مكعب) يدرك جليا حجم الحرمان، ومدى خيبة الأمل التي قد تصيب فقراء سواحل الغرب الإفريقي مستقبلا بعد عدة عقود من استغلال ثروتهم من الغاز الطبيعي الموجودة في مكامن تحت مياه البحر بعمق حوالي 3000 متر، وفي اعتقادي هناك عاملان أساسيان قد يقفان وراء خيبة الأمل تلك، وهما :
أولا: المنصات العائمة
من الملاحظ خلال السنوات الأخيرة الترويج الكبير في إفريقيا لمشاريع منصات إنتاج الغاز الطبيعي المسال العائمة (FLNG)، وقد يكون ذلك عائد إلى العديد من المزايا التي تتمتع بها هذه المنصات على سبيل المثال لا للحصر: رأس مال استثماري أولي قليل نسبيا، إنشاء وبناء أسرع، عائدات مالية مبكرة، أكثر أمانا، وقد تكون هذه الأ سباب وغيرها هي العوامل التي تقف وراء سرعة اتخاذ القرار النهائي للاستثمار (FID) في مشروع احميم المشترك بين بلادنا و السنغال،
وكذلك في مشروع الكاميرون للغاز المسال (Cameroon FLNG) بطاقة إنتاجية تصل إلى 1.4 مليون طن سنويا، ومشروع روفوما (Rovuma LNG) في الموزمبيق بطاقة إنتاجية تصل إلى 15.2 مليون طن سنويا، وكذلك مشروع في الكونغو برازافيل (Congo FLNG) بطاقة إنتاجية تصل إلى 1.4 مليون طن سنويا، وقبلهم مشروع فورتونا (Fortuna FLNG) الذي تراجعت مؤخرا عنه شركة أوفير إينرجي (Ophir) قبالة ساحل غينيا الاستوائية.
لكن مما لا يخفى على أحد أن استخدام المنصات العائمة المصنعة خارجيا يحرم الدول مانحة الإمتياز الكثير من فرص إنشاء وانجاز البنية التحتية اللازمة على اليابسة، كما يحرم أبناء تلك البلدان الكثير من فرص العمل، و الأخطر من ذلك قد يشكل تهديدا حقيقيا للثرة السمكية التي يعيش عليها الملايين في البلدان الإفريقية الفقيرة، كما أن هذه المنصات العائمة التي قد تصل إيراداتها المالية إلى مبالغ أكبر من ميزانيات الدول التي تقع في حيزها الجغرافي المائي قد تشكل تهديدا حقيقيا للأنظمة السياسية الإفريقية الغيورة على مصالح شعوبها خاصة أن وجود المنصات في البحر يفقد هذه الدول وشعوبها الكثير من أوراق الضغط على الشركات الدولية، و يجعلها في الموقف الأضعف في حالة نشوب مشاكل، بل لا أكون مبالغا إذا قلت أن إنشاء هذه المنصات في البحر بعيدا عن أعين المواطنين و أيديهم قد تكون قمة جبل الجليد للأسلوب الاستعماري الجديد لنهب ثروات القارة، الأسلوب الذي لن يترك أي أثر للجريمة، ولا حتى لمكانها بعد رحيل المنصة العائمة.
ثانيا : عقود المشاركة بالإنتاج
أما العامل الثاني فهو عقود السيادة الوطنية الشكلية و الوهمية أو ما يعرف بعقود المشاركة بالإنتاج التي هي أصلا عقود تقوم على المخاطرة، حيث ظهرت هذه العقود أول مرة في الدول التي لديها توقعات نفطية أو غازية ضعيفة جدا، وخاصة في المناطق التي لا يتصور وجود أي مكمن فيها، لذلك وبدلا من تكبد الدولة الفقيرة أصلا تكاليف عمليات التنقيب بكل مراحله يتم التعاقد مع شركة أجنبية ترغب بالمشاركة مع الدولة والقيام بتلك العمليات، وبدون مقابل في حالة عدم إكتشاف أي مكمن .
أما و الحالة في الأحواض الإفريقية و المياه الإفرقية العكس، إذ تشير كل المؤشرات إلى وجود النفط والغاز بكميات هائلة، فإن الركون إلى هذا النوع من العقود في الدول الإفريقية ذات التوقعات النفطية أو الغازية الجيدة والممتازة مثل بلادنا يطرح أكثر من سؤال، ومع ذلك يبقى اختيار هذا النوع من العقود بالنسبة للبلدان التي تملك ثروات نفطية أوغازية معتبرة، و ينقصها رأس المال والمستوى الفني لاستخراجها اختيارا مقبولا خاصة أن هذا النوع من الاتفاقيات يمنح تلك البلدان حق تدريب كوادرها الوطنية، وتشغيل الايدي العاملة من مواطنيها وغير ذلك من المزايا.
لكن المشكلة تكمن في أن هذا النوع من الاتفاقيات يتميز بعيب تصميمي هيكلي تعاقدي يجعل من مستقبل وحجم عائدات الدولة المانحة مرهون بشكل قوي بوضعية مستقبل السوق العالمي للغاز الطبيعي المسال، الذي بدوره مرهون بمعادلة معقدة تتحكم فيها عوامل دولية خارجة عن إرادة الشركات، والدول الإفريقية، ومن أهم هذه العوامل مدى تطور تقنيات استخراج غاز صخري منافس، وكذلك مدى تقدم المفاوضات التجارية بين الصين وأمريكا وخاصة الشق المتعلق بالغاز المسال الأمريكي، و المدى الذي ستصل إليه الطاقة الإجمالية الإنتاجية التسييلية للعالم، بالإضافة إلى مدى مضي الصين قدما في تنفيذ خطتها إحلال الغاز المسال محل الفحم، و مدى مواصلة أمريكا والسعودية استخدام النفط كسلاح ضد أعدائهم، وغير ذلك من العوامل التي تؤثر على مستقبل السوق العالمي للغاز المسال وأسعاره.
صحيح أن منصات إنتاج الغاز الطبيعي المسال العائمة تملك العديد من المزايا الاقتصادية والأمنية لكن المزايا كلها تقريبا في خدمة أجندة الشركات الأجنبية، و لنا في أول مشروع من هذا النوع في إفريقيا مشروع الكامرون خير مثال، و ما أخشاه حقيقة هو أن تتحول هذه المنصات العائمة لإنتاج الغاز المسال و إيرادتها الضخمة إلى منصات للتحكم في الدول الإفريقية بل وربما ممول ومغذي للنزاعات والحروب الأهلية والقبلية بعيدا منها على اليابسة عندها سيتحول الغاز الإفريقي الكامن في أعماق سحيقة تحت البحار إلى لعنة من لعنات الثروات الطبيعية التي تطارد الدول الأفريقية منذ عقود.