من المعروف عند المتخصصين أن رسم المصحف هو ما كتبه الصحابة رضوان الله عليهم من هيئة للكلمات وصلاً أو فصلاً زيادة أو عدمها حذفا أو إثباتا.. الخ وبالتالي فالذي عليه جمهور العلماء قديما وحديثاً هو وجوب اتباع هذا الرسم في المصاحف وعدم مخالفته لإجماع الصحابة على ذلك، ولم يخالف في هذا أحد من أئمة المسلمين إلا ما يحكى عن أبي بكر الباقلاني من عدم وجوب ذلك ،وهو قول شاذ لا يلتفت إليه. ومن المعروف كذلك أن الرسم متفق عليه لدى أهل القراءات جميعا بل عدّ العلماء من أركان القراءة المتواترة موافقتها ولو احتمالاً لرسم مصحف عثمان رضي الله عنه.
قال ابن الجزري في طيبته مبينا أركان القراءة المتواترة:
وكل ما وافق وجه نحوي @ وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن @ فهذه الثلاثة الأركــــــان
وحيثما يختل ركن أثبت @ شذوذه لو أنه في السبعـة.
وقد وقع في الرسم بعض الكلمات التي حصل اختلاف بين العلماء في الهيئة التي رسمت عليها في مصحف عثمان رضي الله عنه ،وهي وإن كانت كلمات قليلة إلا أن أهل هذا الفن حرروا مواضع النزاع فيها ،وبينوا الراجح من المرجوح في رسمها، وفي هذا الباب يتبين المتخصص من غيره، وبما أن رواية ورش انتشرت واشتهرت في المغرب الإسلامي فالمعول عليه إذا تشهيرهم دون غيرهم ،أما الضبط في علم رسم المصاحف فيطلق على العلامات التي وضعت على عصر التابعين رحمهم الله تعالى علاوة على رسم الصحابة رضوان الله عليهم لما احتاج الناس إلى هذا الضبط كثيرًا بعد ما فسدت السليقة التي كانت في عصر الصحابة ،فكان لا بد من وضع بعض العلامات التي تمنع القارئ من تحريف كتاب الله تعالى كإعجام بعض الحروف دون بعض، ووضع علامات لأقسام الإعراب (الرفع – النصب – الجر – الجزم) ووضع علامة للحرف المضعف تميزه عن نظيره المخفف وعلامة للإشمام والاختلاس، وعلامة تدل على الإمالة ... الخ
وكان نساخ المصاحف قديماً يميزون بألوان المداد بين الرسم والضبط ،فيضعون ما رسمه الصحابة رضوان الله عليهم باللون الأسود الذي هو لون المداد العادي آن ذاك، ويضعون علامات الإعراب والحروف المحذوفة باللون الأحمر ويضعون نبرة الهمزة المحققة غير المسهلة ولا المنقولة حركتها لساكن باللون الأصفر، ويضعون نقطة الابتداء بلون أخضر ... الخ
وذلك ما لخصه الطالب عبد الله رحمه الله في المحتوي الجامع في ضبطه بقوله:
وكل ذا حمرا وصفرا الهمز حال @ قطع وخضِّر الابتدا والنقط تال .
وهذا الضبط يتم وضعه لكل قارئ من القراء تبعا لما يقرأ به فتوضع – مثلاً – الصلة لمن يصل ميم الجمع وهاء ضمير الواحد ،وتنزع هذه الصلة في الضبط لمن يقرأ بحذفها، وتوضع نقطة الإمالة والإشمام تبعا لذلك ... الخ وهكذا.
وخلال دراسة أعدها بعض الباحثين المتخصصين في علوم القراآت والرسم والضبط على المصاحف المطبوعة في العالم الإسلامي برواية ورش عن الإمام نافع المدني شملت العديد من الطبعات كطبعة مصحف دار ابن كثير ومصحف دار القادري ومصحف دار ابن الهيثم والمصحف المغربي الحَسني المسبع برواية ورش ، الذي نشرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة 1417هـ ،والمصحف الموريتاني الذي طبع بأمر من فخامة الرئيس الموريتاني محمد بن عبد العزيز سنة 2012 م .....الخ ،تبين أن جل المصاحف التي شملتها الدراسة باستثناء المصحف الموريتاني اشتركت في بعض الملاحظات في الرسم والضبط بعضها يرجع إلى الاختلاف في النقل واعتماد وجه ضعيف ،وبعضها يرجع إلى تشهير ما ليس بمشهور ،والبعض الآخر يرجع إلى مخالفة ما درج عليه المتخصصون من علماء الفن المغاربة عموما ،والشناقطة منهم على وجه الخصوص الذين اعتنوا بهذا الفن وفاقوا به أقرانهم نظريا وعمليا ورواية ودراية.
وتبين أن المصحف الموريتاني - ومن بعده يأتي مصحف مجمع الملك فهد في الغالب - أسلم المصاحف التي كتبت على رواية ورش عن الإمام نافع من طريق الأزرق في العالم الإسلامي اليوم ، وأقربها إلى موافقة النقل في فني الرسم والضبط مع تحري موافقة التشهير في هذا الفن
ومن نماذج الملاحظات التي وردت في هذه الدراسة ،والتي ثبتت سلامة المصحف الموريتاني منها ،ووقعت في جل مصاحف ورش المطبوعة في العالم اليوم ما يأتي:
أولا : الملاحظات في الرسم :
1/ أثبت في جل هذه المصاحف قوله تعالى (سقية الحاج) و (عمرة المسجد الحرام) أي وضعت الألف في (سقاية) و (عمارة) ثابتة غير محذوفة، فرغم أن الشيخين الداني وابن نجاح أغفلا هاتين الكلمتين فلم يذكراهما بحذف ولا إثبات، وتبعت العقيلة في ذلك أصلها، ورغم أن البلنسي لم يذكر فيهما الحذف، وتبعه الخراز في العمدة ومورد الظمآن، إلا أن هؤلاء انطلقوا من أن سكوت الشيخين عنهما في قوة التصريح بالإثبات وليس كذلك لما ينطوي تحت السكوت من الاحتمالات كأن تفوت الشيخ أثناء استقراء الألفات المحذوفة من المصحف أو ينساها عند سرد هذه الألفات بعد ذلك، أو أن يختص بها بعض المصاحف العثمانية، ولا يتفق للشيخ أن يطلع عليه.
قال العلامة عبد الودود بن حميه الأبييري في ملحقات نظمه الرائع للرسم:
أما سكوت البعض عما نصا @ عليه بعض العلماء نصــــا
فغير معتبر إذ قد يحتمــــــل @ أن نسي المسكوت عنه أو جهل.
والظاهر أن لجان هذه المصاحف الشريفة قد وضعوا هذه الاحتمالات في الاعتبار حين قرروا حذف الألف في (أنى يكون لي غلم )
(آل عمران 40) و(سبل السلم) ( المائدة 16) تمشيا مع رواية الداني بالحذف فيهما رغم سكوت ابن نجاح عنهما ،فلو كانت اللجان المشرفة على هذه المصاحف يعتبرون سكوت أبي داود سليمان بن نجاح تصريحاً بالإثبات لكانوا قد خالفوا ما التزموا به من ترجيحه على الداني عند الاختلاف.
ومهما يكن فإن رواية الثقات للحذف في هاتين الكلمتين يجعل حذفهما داخلاً في باب زيادة الثقة غير المنافية ،المتفق على قبولها، لأن من حفظ
حجة على من لم يحفظ. وقد قال الحافظ ابن الجزري في النشر 2/278: عن هاتين الكلمتين (رأيتهما في المصاحف القديمة محذوفتي الألف....ثم رأيتهما كذلك في مصحف المدينة المشرفة. ولم أعلم أحدًا نص على إثبات الألف فيهما ولا في إحداهما) ،وناهيك بابن الجزري شاهدًا في هذا الفن.
وتبع ابن الجزري في هذا الشيخ أحمد البنا في الإتحاف صـ246 حيث قال: (وكتب سقية الحاج وعمرة في المصاحف القديمة محذوفتي الألف)
ودرج على هذا القول أكثر المؤلفين في الرسم من أهل المغرب. فقال صاحب (التحفة) الشريف سيدي محمد العربي بن بهلول الرحالي:
لفظ سقاية أتى فيه الخلاف @ وبعضهم حذفه بلا خلاف
وقال الطالب عبد الله الجكني في كتابه المحتوي الجامع رسم الصحابة وضبط التابع جامعاً لسقاية مع نظائرها التي تحذف إذا خفّفت وتثبت إذا شدّدت:
.......................... .....وساحر خف دون
تواصوا أو سامر تماثيل ديار @ سقاية اعكس ضعفا الرفع تجار
وقال في المحذوف بعد الميم:
الإيمان الأيمان عمارة الغمام @ الأعمال مالك علما الرحمن دام
ومثله الشيخ محمد العاقب بن مايأبي الشنقيطي في كتابه : (كشف العمى والرين عن ناظري مصحف ذي النورين) حيث قال عن " سقاية" جامعاً لها مع نظائرها التي تثبت مع لام التعريف وتحذف دونها:
كذا التماثيل إذا ينكر @ وأربع في الحكم معه تذكر
وهي سقاية ولفظ ساحر @ دون تواصوا مع ديار سامر
وقال في المحذوف بعد الميم:
أسمائه عمارة الغمام @ الأعمال إسماعيل والأعمام
ولهذا كله قال الشيخ محمد الفلالي:
سقاية عمارة بالحـــــــــذف @ في ألفيهما بغير خلف.
وقال في النشر ففي المصاحف @ أعني القديمة بغير ألف.
فإذا أضيف إلى ذلك ما تقرر عند شيوخ الفن من أن الحذف إذا كانت فيه إشارة إلى إحدى القراءات المعروفة، وكانت لا تتأتى بدونه ترجّح ولو قلّ القائل به، وعرف أن قراءة القارئ الثامن من القراآت العشر المتواترة أبي جعفريزيد بن القعقاع المدني من رواية ابن وردان عنه (سُقاة الحاج وعَمَرَةَ المسجد الحرام) باعتبارهما جمع ساق وعامر لا تنسجم مع إثبات الألف فيهما، ترجّح عندنا الحذف فيهما، وكان المصير إليه أولى.
وقد أطلنا في الكلام عند هاتين الكلمتين وما ذلك إلا لما رأيناه من إطباق الكثير من مصاحف الشرق الإسلامي على إثباتهما، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
2/ أثبت في جل هذه المصاحف ألف المد في لفظ (الرياح) من قوله تعالى في سورة الروم (46) (ومن آياته أن يرسل الريح) ومن المعروف أن الحذف فيها هو اختيار أبي داود سليمان بن نجاح الذي تصرح لجان المصاحف بترجيحه عند الاختلاف مع الداني، وقال باطراد الحذف في لفظ (الرياح) أكثر المتأخرين من المؤلفين في الرسم، قال الشيخ الطالب عبد الله في المحتوي الجامع:
رياح يا الندا الأيامى ربيان @ طغيان الشياطين ثاني يأتيان
وقال صاحب كشف العمى والرين :
والحذف في بنيان ربيان @ وفي الشياطين مع الطغيان
وفي الأيامى مع بياتا فأتياه @ تبيانا الرياح مع فألقيــاه
وهو ما عليه قاطبة الشناقطة ومصحفهم المطبوع، فينبغي أن يكون كل ذلك مرجحا للحذف فيه.
3/ لم يترك فراغ في هذه المصاحف قبل بداية سورة التوبة (براءة) إشعارًا بحذف البسملة ، والمعروف عند أهل هذا الفن أن ذلك الفراغ لا بد من تركه. قال صاحب المحتوي الجامع:
...............وبسملة @ لتوبة وقدرها اترك.......
وقال العلامة محمد الأمين بن عبد الوهاب الشنقيطي:
قد نزل الوحي بكتب البسملة @ أول كل سورة منـزلة
إلا براءةً لدى الإمــــام @ قد ترِك البياض للإعلام
وقد ورد في علة إسقاطها وترك البياض المشعر بحذفها أقوال: فقيل إنه نسخ منها بدايتها، وقال بعضهم إن المنسوخ من بدايتها (الشيخ والشيخة إذا
زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ،وقيل إنها نزلت بالسيف ونزع الأمان عن المشركين ،فكانت البسملة التي هي بركة وأمان
لا تناسب ذلك المقام، وقيل إنها ليست سورة مستقلة بل هي من سورة الأنفال ...الخ ، والمهم في هذا كله أن البسملة لم يضعها الصحابة رضي الله عنهم في بدايتها ،وما كان لنا محيد عن فعلهم واتباعهم في ذلك ، كما قال الشيخ محمد الأمين بن عبد الوهاب في هذه الأقوال كلها:
وعلة الإسقاط فيها اختلفا @ فقيل للنزول بالسيف اعرفا
وقيل إنها من الأنفـــال @ وقيل بالنسخ بلا إشكـــــال
وقيل لم توجد برسم المصحف @ فما لنا إلا اتباع السلـف.
4/ حذف في هذه المصاحف الألف من (لازب) الصافات 11 ،والقاعدة المطردة المشهورة في الرسم عند الكثير من العلماء في المغرب الإسلامي أن أي كلمة مبدوءة بلام ممدودة بالألف فإن حكم هذه الألف أن تثبت في جميع القرآن إلا كلمات معدودة خرجت من هذه القاعدة ،تحذف فيها هذه الألف وهي: (لغية) في سورة الغاشية (لكن) في جميع القرآن (لمستم النساء) في النساء والمائدة (لهية قلوبهم) في سورة الأنبياء (لقيه) من قوله تعالى (أفمن وعدنه وعدا حسنا فهو لقيه) في سورة القصص. وما كان كمثل : (الىء) نحو (اللت والعزى) والتي ،واسم الجلالة (الله) في جميع القرآن. قال صاحب المحتوي الجامع في هذا كله:
........ أولى لا لغيه @ لكن وكاللىء المس اله لاقيه .
5/ حُذف فيها الألف من قوله تعالى (ظلام للعبيد) في سورة آل عمران (182) ،وكذلك الألف من لفظ (غلاظ) في سورة التحريم (6) ،وكذلك الألف من قوله تعالى (كل حلاف مهين) في سورة ن (10) ،والمشهور الذي عليه جمهور علماء الرسم في الغرب الإسلامي أن اللام إذا كانت وسط الكلمة ممدودة بألف أن هذه الألف تكون محذوفة في الرسم ،واستثنوا من ذلك كلمات وقعت لامها الممدودة بالألف وسط الكلمة لكن هذه الألف ترسم ثابتة ،ومن تلك الكلمات المستثنيات (ظلام) في سورة آل عمران، (غلاظ) في سورة التحريم (حلاف) في سورة ن (تولاه) في سورة الحج (الان يجد) في سورة الجن (كلاهما) في سورة الإسراء، والألف بعد اللام من لفظ (الصلاة) إذا أضيفت إلى ضمير متصل، والألف بعد اللام التي بعدها همزة متطرقة مثل (هؤلاء – الجلاء – أولاء ... الخ)
قال في المحتوي الجامع معددا لهذه الكلمات التي تثبت فيها الألف بعد اللام وسط الكلمة:
ذي الهمز الأخرى اثبت تولاه غلا @ ظٌ الان جن ظلام عمران كلا
واحلف صلاة ضف صل...................................
6/ حذف في كثير من هذه المصاحف الألف بعد الذال في (كذابا) من قوله تعالى (لا يسمعون فيها لغوًا ولا كذابا) سورة النبأ (35) ،مع إثبات (فأذاقها) أعني الألف التي بعد الذال، وألف المد التي بعد الواو من قوله تعالى (ليواطئوا) والأولى العكس أو إثباتها معا، وأولى بالحذف من الكل الألف التي بعد العين من قوله تعالى (أو إطعام) من سورة البلد لأن الحذف في (ولا كذابا) مما اختص به المقنع للإمام أبي عمرو الداني.
ثانياً : في الضبط :
- عقص ياء ما كيستحي وحقها أن يتم وقصها.
- جعل الهمزة المضمومة التي صورتها الألف فوقه لا وسطه.
- تعرية الياء التي هي صورة للهمزة من نقطها.
- نقط النون الأخيرة والفاء والقاف، والمعروف أن حروف (ينفق) يجب تعريتها حال الضبط إذا تطرفت، قال بعضهم:
حروف ينفق إذا تطرفت @ فعرّها من نقطها حيث أتت.
- وضع ألف المد بعد اللام منفصلة عنه لا مضفورة معه .
- جعل علامة السكون رأس حاء مهملة لا دائرة.
- عدم ترك فراغ في تجويف بعض الحروف مثل العين والميم.
- جعل تنوين الفتح على الحرف الذي قبل الألف بدل جعلها على الألف