هناك أمر مثير للدهشة، سريالي (surréaliste)، يحدث في بلدنا السلمي وهو انه في السنوات الأخيرة، وضعت السلطات العمومية لنفسها التحدي المتمثل في حظر التعليم على جزء لا يستهان به من الذين لا يزالون قادرين على التعلم و يرغبون في الحصول عليه.
و من احدث القرارات التي اتخذت في هذا الموضوع القرار المتعلق بحظر الترشح لشهادة الباكالوريا على المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم 22 سنة نزل القرار بحدة السيف دون سابق إنذار او تشاور مسبق مع الجهات المعنية و هيئات المجتمع المدني. لقد تم القرار "بفعل الأمير" par le fait du prince.
إلا انه تم الإعلان مسبقا عن هذا القرار رغم طابعه التعسفي.
والأكثر إثارة للدهشة، أن المترشحين الجدد لشهادة الباكالوريا، و الذين وصلوا إلى سن الثانية و العشرين بناءا على إثبات التعداد البيومتري الذي وضعه جيش من الأميين ، والذي غالباً ما قام بتغير الألقاب و الأسماء عن طريق الخطأ، و زاد في سن بعض المعنيين بسنة و أكثر، وجدوا نفسهم يخوضون آخر فرصة للحصول على الباكالوريا. و باﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أوﺟﻪ اﻟﻘﺼﻮر اﻟبنيوية و التنظيمية ﰲ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ الذي يعاني منذ عقود ﻣﻦ أﻣﺮاض متعددة، تم إعلامهم بأنهم لا يحق لهم الإلتحاك بمؤسسات التعليم العالي : و القرار لا يعني الجامعات و المؤسسات التعليمية و العلمية الكبرى في العالم بل كليات القانون و الاقتصاد و العلوم واللغات في بلدهم الحبيب.
وقيل لهم بعلو عند ما توجهوا إلى إدارة التعليم العالي إنهم في الثانية والعشرين أصبحوا أكبر سنا من أن يتعلموا ويحسنوا من أوضاعهم الثقافية و العلمية.
لم يكن هذا القرار أكثر سخرية من القرار الذي سبقه، لها السمة الغبية بأنها لم يتم الإعلان عنها سلفًا، فقد تركت الحكومة و من خلال وزارة التعليم مئات الطلاب يقومون بتمويل دراستهم لمدة عام و يراجعون دروسهم و كتبهم لأيام وليالي للحصول على شهادة البكالوريا، ثم استقبلت ملفاتهم و تركتهم يشاركون في هذا الحدث الهام، و بعد وصولهم إلى نهاية المطاف، يتم إخبارهم ، بأنهم ليسوا معنيين و لا مرغوب فيهم و أن عليهم ببساطة العودة إلى المنزل.
هذا النوع من القرارات يزيل قوة مبدأ الشرعية، ومبدأ عدم رجعية القوانين ف بالأحرى القرارات الإدارية ، ويفرغ الدستور والنصوص التي تعتمد عليه من أي قوة قانونية أو أخلاقية.
عندما يكون من الممكن تعطيل أي قانون بواسطة تعميم إداري، أو بامتناع موظف عمومي تلقى تعليمات شفهية من أية سلطة إدارية، فإن الحكومة التي تمثل التعبير عن الدولة خاصة وأن السلطتين التشريعية والقضائية أصبحت رهينة لديها منذ وقت طويل، تكون قد فقدت كل الشرعية التي تقارع بها خصومها و تبرر بها بقائها. يبدو أن نظام "الكزرة" الذي أصبح من خلاله كل شيء ممكنًا ، قد انتشر بشكل واسع، لو قد أصبح سبيلا لأخذ ممتلكات الآخرين، و لتعطيل النصوص القانونية، و لاستعباد القضاة الذين يجب أن يكونوا مستقلين بطبيعتهم، و للاستيلاء على السلطة و إعادة الاستيلاء عليها حسب الرغبة ، و قد يكون سبيلا لتغيير موقع القبلة بمرسوم أو قرار وزاري إذا ما كان ذلك قد يحافظ في "الإستقرار".
إلى أين نحن ذاهبون؟ علينا أن نتماسك قبل فوات الأوان. سيكون لدى الجميع يوم يغادر فيه الدنيا ولكن عواقب قراراته وأفعاله ستبقى بعده فترة طويلة من زمن و قد تكون سببا في سعادة أو شقاء الأجيال التي ستخلفه.
اليوم أصبح مئات الطلاب البؤساء الذين تحطمت أحلامهم بالنجاح و بتسليح أنفسهم من أجل حياة تصعب مواكبتها يوما بعد يوم، على جبل من الجهل والغموض والتضارب، يحتشدون أمام مقر إدارة التعليم العالي، لكن هل سيجدون شخصًا يمتلك على الأقل سلطة الاستماع؟ بدون مبالغة فإن الشك أرجح.
من غير المعقول الاعتقاد بأن تعميم المعرفة وانتشار الشهادات المدرسية و الجامعية قد يشكل عائقاً أمام التنمية. لا بد أن يكون الشخص مريضًا عقليًا حتى يفكر بهذه الطريقة. إن دول مثل اليابان والصين والهند و إندونيسيا والعديد من الدول الأخرى أصبحت في مقدمة الدول المتقدمة بفضل انتشار العلم و التعليم والمعرفة. و أقرب إلى وطننا ، دولة تونس ، التي قرأت مؤخراً ، أن أكثر من 10 آلاف مهندس تونسي قد هاجروا إلى بلدان أخرى بسبب تسييس الحياة وانتشار النظرة ألا اقتصادية للحياة التي يولدها هذا التسييس المفرط. هؤلاء الـ 10.000 مهندس سيحصلون على مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية و سيكسبون المعرفة الميدانية، و يبنون علاقات قد تساعد، غداً، في إنقاذ بلدهم إذا ما تعرض لخطر.
أن الدول الأوروبية و الأمريكية التي تكافح الهجرة السرية و تحشد لها أموال طائلة و سياسات مكلفة لا تخاف هجرة المثقفين و الأطباء و الفنيين و العلماء بل تخاف هجرة الجهلة و الأميين لأنها لا تنتظر منهم خيرا بل تخاف أن تحدث سلوكياتهم البدائية تغييرا مدمرا لنظم الحياة التي بنها لأنفسهم و تعودوا عليها شعوب هذه الدول.
إنه من حيث المنطق السليم أفضل أن يكون لديك عامل يدوي يحمل شهادة الماجستير أو الدكتوراه من أن يكون لديك نائب أو وزير أو رئيس دولة لا يمتلك شهادة التعليم الإعدادي.
مسكينة هي موريتانيا التي لا يملك قادتها لإحداث تغيير أو كسب معركة سوى استخدام القانون ، بل إساءة استخدام القانون ، و وضع الحواجز و المحظورات، إلى درجة أنهم يتجهون بصفة عمياء حول الحد من العلم و المعرفة و تحجيم فرص التوصل و الحصول عليهما.
هل يعبر هذا التوجه عن ركن من أركان الأجندة السياسية للعقد الجديد؟ وللتفكير ، قد يجد هؤلاء الذين فوجئوا بالإغلاق الأخير لمركز تعليم القران الكريم و جامعة خصوصية تبريراً يندرج في السياسة العامة للبلد التي قد تحدث "وزارة لمكافحة عدم الأمية أو التعليم أو التهذيب" و قد تجد من مناصري التغيير من يقبل بهذه الحقيبة و من يدافع عنها و الترويج لها بأنها من أهم إنجازات الإصلاح.
أذكر أولئك الذين هم الآن في القيادة والذين يتطلعون إلى أخذ الدفة بين اليدين بأنه يجب عليهم أن يتدبرو هذه الآيات القرآنية وغيرها.
"يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد"
و ليعلموا أن قرنا من العمر لا يمثل شيئا في الخمسة مليارات سنة الماضية و الخمسة مليارات المتبقية من العمر المعروف لكون و أنه لا يمثل شيئا في الحياة الأبدية بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بها.