في خضم التجاذبات الراهنة حول موضوع إغلاق مركز تكوين العلماء، أجد من واجبي تسليط الضوء على حقيقته، إظهارا للحق، وشهادة أدونها لمن أراد الإنصاف. وذالك بصفتي أول مدير إداري لهذا المركز، عملت فيه بإخلاص (أحسب نفسي كذالك ولا أزكي على الله أحدا) قبل أن تطال المشروع يد العابثين. في مطلع هذه الألفية راود الشيخ محمد الحسن ولد الددو حلم إنشاء مشروع علمي نموذجي في شبه المنطقة بحيث يشكل رافدا ومصدرا مثمرا لتخريج العلماء في مرحلة تميزت بظهور أنماط جديدة من وسائط التعلم وتحصيل المعرفة أصبحت معها المحظرة الموريتانية ووسائلها التقليدية مهددة شيئا فشيئا بالإنحسار. كانت رؤية الشيخ واضحة فيما يتعلق بالمقررات والمناهج وطرق التدريس المناسبة لخصوصياته كمنارة إشعاع تأخذ على عاتقها مواصلة جذوة عطاء تكاد تنطمس. وكان يعارض أي مشروع أو هدف من شأنه أن يزاحم المركز، كما كان يعارض الترخيص حتى لا يكتسي المركز صبغة دنيوية أو سياسية. فهو يفضل بقاءه صرحا علميا دعويا ومركزا أهليا. وكثيرا ما كان يضرب مثالا بالمعهد الإسلامي الذي أقامه الشيخ عبد الله ولد بابه ولد الشيخ سيديا في بتلميت الذي بهر الجميع وكان ملتقى لعلماء موريتانيا وخرج الكثير من أهل العلم والفضل. فبحث أفراد من طاقمه عن إطار قانوني له فتحول من معهد إسلامي إلى إعدادية. وكان يقول: "نحن سندرس ثلاثة وستين تخصصا ولن نتسرع حتى نصل إلى الهدف المنشود ولو كانت البداية بثلاثة طلاب يمكن السيطرة على إيصال المتون المقررة إليهم". لكن رياح الإخوان جرت بما لا تشتهيه سفينة العلم فاستغلوا تمويل المركز أبشع استغلال حيث بادروا إلى التحكم فيه وتحويله إلى مؤسسة من مؤسساتهم السياسية التي تخدم أهدافهم. وتم حجب الثقة عن الشيخ، ومزقوا البرنامج العلمي المحكم الذي كان ينوي تطبيقه، ورموا مشروع تكوين العلماء وراء ظهورهم. وأحكموا السيطرة عليه فكان كافة أعضاء مجلس إدارته ومجلسه العلمي من الشخصيات القيادية في حزب تواصل وفي حركة الإخوان. ثم حولوه إلى خلية سرية لها أكثر من فرع وأكثر من وجه، وإلى معقل من معاقل الإخوان وتركوا كلمة تكوين العلماء ساترا (كما هي عبارتهم) أي غطاء على أهداف التنظيم الدولي للإخوان فصار وجهة لهم وملاذا آمنا لاجتماعاتهم ورسم سياساتهم في البحث عن السلطة. ولم يتركوا متابعته لأفراد الصف الثاني أو الثالث داخل الحركة (ثلاثة من أعضاء مجلس إدارته أمراء للحركة). كانت أنظار التنظيم الدولي تتجه إليه فبعثوا بنائب المرشد العام للإخوان جمعة أمين عبد العزيز رحمه الله لزيارته في وقت كان التواصليون يخططون لحراك الرحيل تأسيا برياح الربيع العربي. وقد سبقتها جلسات عمل تمهيدا لها. وزاره رئيس حركة النهضة. وهكذا بعد الزيارات واللقاءات التي كان المركز مأوى لها تم حبك المخطط من طرف قادة الإخوان وعيونهم على النيران المشتعلة في بعض الدول العربية. وتقدم المرشد لصلاة الجمعة في مسجد المركز يوم 07 يناير 2012 ولم يراع المركز العلمي خلاف أهل العلم في إمامة المسافر. وهكذا أم نائب المرشد جموع المصلين في هذا المنكب القصي فاستنهض الهمم وأشاد بجو الثورات (والتي جاءت بعد وعي الشعوب بحقوقها، والتي حققت ما كنا نصبوا إليه) نص كلام نائب المرشد. ثم تتالت بعد ذالك زيارات قادة التنظيم الدولي معلنة وغير معلنة، فكانت لا تكاد تنقطع تحت غطاء شخصيات علمية وأكاديمية تزور المركز. بعد هذه الخطبة بعشرة أيام تحدث الشيخ الددو أمام جمع غفير في محاضرة بدار الشباب عن الثورات فكان مضمون حديثه يتفق حد التناص مع خطبة نائب المرشد، فقال (إن ما حصل الآن في العالم الإسلامي من هذه الثورات التي رأيتم هو نتاج وعي شعبي عام وليس نتاج عمل سياسي أو دعوي فحسب بل قد كان وعيا سائدا في الشعوب، فالذي قتل متقدما غير منهزم قد نال حريته حين عبر عن رأيه ونال شرفه بذالك في الدنيا وفي الآخرة والذي عاش بعد ذالك سينال مقصوده ومطلوبه غير متصدق عليه به ولا ممنون فإن الحق لا يؤخذ إلا غلابا وما انتزع بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة) وقد أشار بوضوح إلى أن الإخوان هم من حرك هذه الشعوب حين قال: (كانت البداية شعارات ترفعها حركات وإيديولوجيات ولكن نظرا لكونها ليست شمولية ولا عامة للأمة ولا جامع لها لم تستطع تحريك الأمة بكاملها). تحول المركز من مشروع صرح علمي إلى وكر من أوكار السياسة وأصبح مركزا لتكوين رواتب ضخمة ووظائف صورية لقادة حزب تواصل وجماعة الإخوان، وعدلوا عن فكرة تكوين العلماء إلى إقامة مركز لتجنيد الأبرياء للإنخراط في الإخوان والإنتساب لتواصل فكانت الدورات العلمية التي يلقيها الشيخ الددو داخل المركز مناسبة للحصول على منتسبين جدد، حيث يندس عناصر من الإخوان داخل القاعة وعند الباب ينظرون إلى الحضور حتى يختاروا بعناية من يصلح للإنخراط في الإخوان والإنتساب لحزب تواصل، والذي يمكن أن يمول الحزب والحركة. كما يسلكون نفس السلوك بالنسبة للرقية التي يفترض أن تكون شرعية لكنهم أرادوها غير شرعية، فأطلقوا العنان للإختلاط، وأرسلوا أفرادهم للدعاية من خلالها للحركة والحزب. وهذا هو دأبهم في استغلال محاضرات الشيخ متى دعت الحاجة أو تمت مضايقتهم، فهم يستغلونه لاستجداء عواطف الرأي العام والبحث عن الشعبية. ورغم حرصهم على التأكيد أن الشيخ لا ينتمي إلى الحزب (وحرصه أيضا في تصريحاته) ترى قادتهم يقولون إن الشيخ مكث طويلا في الخارج والحملة على الأبواب فعليه أن يعود إلى الوطن وينظم الرقى والدورات العلمية حتى يتسنى للحزب اكتساب منتسبين وممولين جدد. بعد الإنقلاب الذي أحدثه الإخوان في مشروع مركز تكوين العلماء تغيرت شروط الكفاءة لتعيين أساتذة وأعضاء مجلس الإدارة، فلم يعد العلم أو الكفاءة المهنية مطلوبين بل الشرط الوحيد هو ثقة الإخوان في الشخص المعين. وهكذا أصبح أعضاء مجلس الإدارة والمجلس العلمي كلهم من الإخوان. كل هذا دون مراعاة مستوى هؤلاء فأحد الأعضاء لا يحسن قراءة القرآن في المصحف قراءة سليمة. وعضو آخر يدرِّس متن ألفية ابن مالك دون الإحمرار للعلماء والعالمات ويعتمد اعتمادا كليا على شرح ابن عقيل! ومما لا جدال فيه أن من يكون العلماء يفترض أن لا يحتاج إلى ابن عقيل. لأنه يكفي لأي شخص على درجة متواضعة من العلم اقتنى شرح ابن عقيل من سوق العاصمة أن يستخدمه لشرح الألفية. وأحد الأساتذة فشل في النجاح في امتحان شهادة الباكالوريا شعبة الآداب الأصلية في دورتي 2012- 2013 وهو حينها يكوِّن العلماء! بحثوا عن المواهب الشابة التي حصلت على معظم المتون المعتمدة في المحاظر وأغروهم حتى أدخلوهم المركز من أجل عرضهم على الممولين والحديث عنهم في وسائل الإعلام بوصفهم وصلوا إلى القمة في تحصيل العلم. وأنهم علماء تكونوا في المركز.والوثيقة المرفقة صادرة من رئيس مركز تكوين العلماء تفيد أن أحد الطلاب وصل إلى أعلى درجة مما هو متاح من العلم في المحاظر وبجهود علماء (من أمثال الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله) قبل أن يلتحق هذا الطالب بالمركز. وهم الآن يقدمونه كمثال لطلاب المركز الذين تم تكوينهم داخله حتى أصبحوا علماء. وأمثال هذا الطالب كثر، بل إن من بينهم الخريجين من معاهد أخرى. هكذا تم اختطاف مركز تكوين العلماء بهذه الطريقة الفجة. وحين عبرت للشيخ الددو ـ وأنا أقدم استقالتي ـ عن امتعاضي من السلوك الذي يسلكه هذا المشروع أجابني والتأثر باد على وجهه قائلا: إن المركز للإخوان وليست لدي عليه أية سلطة.