كان غزو العراق للكويت، غلطة الشاطر، وكان ذلك مغالاة في السلوك القومي، لا شك أن الرئيس العراقي الراحل، قد وقع في الفخ، الذي نصبته له سفيرة الولايات المتحدة في بغداد، حين ظن ان أميركا لن تهتم كثيراً، إذا قام العراق، بضم الكويت بالقوة المسلحة، أم ان ذلك كان تعبيراً عن جنون العظمة بعد انتصار العراق على إيران العام 1988. ما يجري في العراق، ليس هذه الأيام فقط، وإنما منذ الغزو الأميركي للعراق العام 2003، لا شك انه يدعو العراقيين شيعة وسنّة، للتحسر على أيام نظام البعث، الذي دفن الطائفية البغيضة، حتى لم يعد ثمة مجال للتمييز بين سنّي وشيعي، او مسيحي إلا بالاسم.
لولا الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه نظام البعث في العراق، حين حاول ضم الكويت بالقوة المسلحة، لكانت دول الخليج ستتحسر على تلك الأيام ذلك ان العراق شكل ضمانة امن الخليج، والقوة الساهرة على البوابة الشرقية للوطن العربي، وكان قوة كبيرة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
في هذه الأيام، يخرج أبناء الشعب العراقي بالملايين في معظم المحافظات. يحملون في صدورهم أوجاع عقود من الزمان، في ثورة عارمة، ضد الفساد المستشري، وضد السياسة الرسمية، التي تمالئ إيران، وفي مواجهة سنوات طويلة من الفقر، والبطالة في بلاد النفط.
كان العراق في زمن سابق، يشكل نموذجاً في التقدم والتنمية بين دول العالم الثالث، حتى أوشك ان يصنف من دول العالم الثاني من بين عشرات الدول، ومنها الدول العربية تمكن النظام العراقي حينذاك من ان يرفع إنتاجية العامل العراقي الى ثماني ساعات في اليوم، بسبب سياسة الثواب والعقاب.
وجع العراقيين لا يعود في الأساس، الى العام 2003، أي بعد الغزو والاحتلال الأميركي، فلقد جرى إنهاك الشعب خلال مرحلة الحصار الطويل الذي خضع له البلد لنحو عشر سنوات، خلال تلك السنوات، صمد العراق، وحافظ على كرامته وهويته القومية، لكن الحصار أدى الى إفقار الناس. زرت العراق العام 2000، وأعرفه سابقاً حيث درست وأقمت فيه، لكنني فوجئت، بل فجعت لما آل إليه أهله من فقر، كنت ابحث عن مستشفى، يمكن ان يستقبل شاباً من الأصدقاء يعاني من فشل كلوي، ويحتاج الى زراعة كلية، في وقت كان النظام قد اتخذ قراراً بمنع بيع وزراعة الكلى لغير العراقيين، بعد ان كان ذلك متاحاً. كان باعة الأعضاء البشرية، يتكدسون أمام المستشفيات يسألونك حاجتك، وكان ثمن الكلية لا يتجاوز السبعمائة دولار فقط. كان الكثير من الفقراء، قد باعوا بيوتهم، وأثاثهم، وما يملكون، وحين لم يعد لديهم ما يبيعونه، انتشرت الدعارة وبدأت تظهر علناً تجارة الأعضاء البشرية، لكن لا العراق خضع ولا خضع العراقيون أصحاب "النيف".
لقد أسست تلك المرحلة، الأرضية الخصبة، لما جاء بعدها من احتلال دمر مقدرات البلد، وانعش الطائفية بكل أشكالها ومسمّياتها وبكل ما تنطوي عليه من قبح، وجنون. هكذا كان على الأميركي ان يفعل لتمزيق النسيج الاجتماعي، ودفعه نحو متاهات صراع كالسرطان جعل الديمقراطية، سبباً ووسيلة، للتدمير بدلاً من أن تكون سبباً ووسيلة للتعمير.
هناك انتخابات تجري في العراق، ونظام يسمى "برلماني" او من شأن ذلك ان يكرس ويعمق المحاصصة الطائفية، حتى الطغيان، وكان لا بد من ان يظهر تنظيم الدولة "داعش" بذريعة مقاومة الطغيان الشيعي لكي يكمل مهمة التدمير الذاتي، المخطط له أميركياً.
وفي السياسة العامة، تقاسمت الولايات المتحدة الأميركية مع إيران، النفوذ والسيطرة، دون ان يعني ذلك رضا الشعب العراقي لكن ذلك كان واحدا من أجندات القوى السياسية الطائفية الطاغية يدفع العراق ثمن الوجود والنفوذ الإيراني، وفي الوقت ذاته يدفع ثمن الوجود والنفوذ الأميركي، بينما الأمن القومي للعراق مرهون بالوجود العسكري الأميركي، الذي شكل غطاءً للاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على منشآت وقواعد بحجة مكافحة الوجود الإيراني وتوابعه.
لم يكن للعراقيين ان يحتملوا كل ذلك، فبعد ان قتل من قتل وجرح من جرح، في الحروب الخارجية والطائفية، تشتت الناس والأغنياء نقلوا أموالهم ومقدراتهم الى الخارج، ولم يبق من الناس إلا من لا حيلة له على شيء سوى اجترار مرارة الحرمان.
في البلد النفطي الغني، يعاني عشرات ان لم يكن مئات الآلاف من الخريجين الذين اعتصموا كل حسب اختصاصه أمام الوزارة المعنية، لكن الحكومة لم تكن هناك. وخرج العراقيون قبل سنوات، الى الشوارع، لكن اثقال الطائفية وتجاهل النظام وقمعه، حال دون تطوير وتصعيد تلك الهبّة.
ذات مرة قرأت في صحيفة أجنبية، وربما كانت أميركية، قائمة بعشرات قليلة من المسؤولين العراقيين، الذين يملكون اكثر من ستمائة مليار دولار، ومن بينهم بالتأكيد عدد من رؤساء الحكومات السابقة. بلد النفط يعاني فيه الناس من الخدمات الأساسية، الكهرباء والمياه، والشوارع والصرف الصحي، والصحة، والتعليم، بينما تذهب عائدات النفط الى جيوب ملوك الطوائف. المحزن المبكي انه بعد سقوط نحو مئة وأربعين مواطنا وجرح اكثر من أربعة آلاف، عدا المعتقلين، يخرج رئيس الحكومة الشيوعي السابق عادل عبد المهدي ليطالب المرجعية الدينية باحتواء الموقف.
ما زلت لا أرى فيما يجري ربيعاً، وإنما وربما مقدمات، طالما بقي الفساد والفاسدون، وبقيت النخبة الطائفية، وغاب الحزب او التنظيم الذي يمكن ان يقود الناس الى ربيعهم، ويشكل البديل الممكن. أما الكلمة الأخيرة فإنها ستكون بتحذير كل من يراهن على الاحتماء بأميركا وإسرائيل، ذلك انه هالك لا محالة.