عبد الباري عطوان/عندما يعلن الرئيس الامريكي دونالد ترامب “ان عناصر غير منضبطة” قد تكون وراء قتل الصحافي خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، وان العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز اكد له، وبشكل حازم، ليس لديه علم بأي شيء، فهذا يعني ان البحث عن كبش فداء لالصاق الجريمة به، قد بدأ، وان صفقة ثلاثية امريكية تركية سعودية قد جرى التوصل اليها لاغلاق هذا الملف وربما الى الابد.
اعلان العاهل السعودي الملك سلمان، انه امر باجراء تحقيق داخلي في هذه الجريمة هو “اعتراف” بتورط عناصر سعودية، والتراجع عن كل المواقف السابقة التي سادت طوال الـ 13 يوما الماضية، وانكرت اي دور للسعودية، واكدت ان خاشقجي غادر القنصلية بعد عشرين دقيقة من دخولها، وادعوا القلق على اختفائه.
نقطة التحول الرئيسية التي ادت الى هذا التراجع السعودي الرسمي في رأينا هو نقل وكالة انباء “رويترز” العالمية عن مسؤول ومصدر امني تركيين ان سلطات الامن التركية لديها تسجيل صوتي يؤكد مقتل الصحافي خاشقجي داخل القنصلية، واحتمال ارسال نسخة من هذا التسجيل الى السعودية والولايات المتحدة معا.
***
الملك سلمان بن عبد العزيز قال الحقيقة عندما اكد للرئيس الامريكي بشكل حازم انه ليس لديه علم بأي شيء، فالحاكم الفعلي للمملكة هو ولي عهده الامير محمد بن سلمان، وكل اصابع الاتهام تشير اليه، والمجموعة المحيطة به، فمن يجرؤ داخل الاجهزة الامنية الاقدام على ارتكاب جريمة كهذه في قنصلية سعودية، ولاغتيال صحافي مشهور، وارسال طائرات خاصة وفريق من 15 رجل امن غير المسؤول الاعلى وصاحب القرار الاول في المملكة حاليا؟ فمن يتخذ قرار شن حرب في اليمن لا يتردد في اغتيال صحافي كان من اهل البيت وانشق.
تدخل الملك سلمان، او بالاحرى، التدخل بإسمه، عندما تدخل المملكة في ازمة صعبة بات ممارسة مألوفة، فعندما جرى اتهام السعودية، وولي عهدها، بتأييد صفقة القرن، وتهويد القدس المحتلة، كركن اساسي فيها، خرج العاهل السعودي ببيان اكد فيه ان بلاده متمسكة بالمبادرة العربية، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، انها لن تقبل الا ما يقبل به الفلسطينيين، والسيناريو نفسه يتكرر الآن حرفيا.
الاسئلة المطروحة بقوة الآن هي عن “كبش الفداء” الذي سيتم التضحية به لرفع اي لوم عن العاهل السعودي، وولي عهده، والمسؤولين الكبار في المملكة؟ وما هو الثمن الذي سيتم دفعه لتركيا وللولايات المتحدة مقابل المساعدة في “لفلفلة” هذه الجريمة وطوي صفحتها؟
للاجابة على هذه الاسئلة، او بعضها، علينا الرجوع الى قضية لوكربي والصفقة التي جرى التوصل اليها لانقاذ العقيد معمر القذافي، وعدم توجيه اي اتهام له، ورفع الحصار الخانق عن ليبيا، ومن المفارقة ان المملكة العربية السعودية، والامير بندر بن سلطان، سفيرها في واشنطن في ذلك الحين، كان احد ابرز مهندسيها.
التقيت شخصيا المتهم الرئيسي، او بالاحرى، كبش الفداء الليبي في هذه الصفقة، واقصد عبد الباسط المقرحي، رجل الامن الليبي الذي ادين بالسجن مدى الحياة بتهمة زرع القنبلة في احدى الحقائب التي فجرت طائرة “بان آم” فوق اسكتلندا، وراح ضحية هذه الجريمة حوالي 300 راكب، المقرحي الذي دعاني لزيارته في سجن غلاسكو اكد لي انه لا دور له على الاطلاق في هذه الجريمة، وهو يعاني من مرض السرطان (البروستات) الذي انتشر في جسده، ولم يبق امامه بضعة اشهر قبل الموت المؤكد، وبكى بكاء لم ارى، او اسمع مثله في حياتي.
المقرحي قال لي انه يملك الشجاعة للقول انه ارتكب الجريمة فليس لديه ما يخسره، وهو الذي يقف على حافة الموت، واكد انه استخدم كذريعة وضحية، لانقاذ آخرين، كما اكد لي بعد ذلك باسابيع السيد عبد الرحمن شلقم، وزير الخارجية الليبي الاسبق، وهو زميل دراسة، ان ليبيا لم يكن لها اي دور في لوكربي اطلاقا، ودفعنا ما يقرب ثلاثة مليارات دولار كتعويضات لامريكا من اجل ليبيا ورفع الحصار عنها، وهو ما زال حيا يرزق.
***
نقولها للمرة الثالثة، بأن الصفقات تتقدم على مبادىء حقوق الانسان، خاصة بالنسبة الى رئيس مثل ترامب لا يؤمن الا بالعمولات، ولا يجيد غير ابتزاز السعودية ودول خليجية، ونهب معظم ما لديها من مليارات، فلم يحصل في تاريخ امريكا ان مارس اي زعيم امريكي الابتزاز بهذه الوقاحة، و”عاير” هذه الدول اربع مرات في ايام معدودة بأنها لن تبق حكوماتها في السلطة اسبوعين بدون الحماية الامريكية، وذهب الى ما هو اخطر من ذلك عندما لوح بأن ايران ستحتل السعودية في 12 دقيقة دون الحماية الامريكية.
لا نعرف المبلغ الذي سيحصل عليه ترامب مقابل دوره في اخراج الحكومة السعودية من هذه الازمة بأقل الاضرار، لكننا نتكهن بأن المبلغ سيفوق مئات المليارات، ولا بد ان مايك بومبيو، وزير الخارجية، الذي غادر الى الرياض اليوم سيحمل “الفاتورة” التي ستتضمن تفاصيل هذا المبلغ.
نعتقد ان السبق الصحافي القادم الذي سيحتل العناوين الرئيسية هو الكشف عن جثمانه، ومكانه، وكيفية قتله في القنصلية السعودية.. والايام بيننا.