لم أكن من متابعي مقالات الرأي التي كان يكتبها جمال خاشقجي قبل اختفائه، لكن تسليط الإعلام العالمي عليه خلال الأسبوعين المنصرمين جعلني أبحث وأفكر في العلاقة بين فلسطين وخاشقجي والإعلام.
عن العلاقة بين فلسطين وخاشقجي، وجدت مقالاً كتبه العام ٢٠٠٣ في صحيفة الديلي ستار اللبنانية التي تصدر باللغة الإنجليزية بعنوان "والدي الفلسطيني، رحمه الله" يتحدث فيه بإسهاب عن والده الذي توفي في نفس العام والذي لم يهتم أبداً في السياسة في حياته، لكنه كان محباً للقدس التي زارها عندما كان طفلاً، وكان مدركاً بفطرته أن خسارة القدس سببها ضعف العرب لا قوة إسرائيل.
في المقال يشبه خاشقجي مشاعر والده، عندما خسر "محل أقمشته" في حريق واضطراره للرحيل الى مكان آخر، بمشاعر الفلسطيني الذي خسر بيته وأرضه. الشعور بالاغتراب وفقدان الإحساس بالمكان ومن هنا كما يبدو عنوان المقال.
في مقال آخر باللغة العربية يتحدث خاشقجي عن التغير المتعاظم في الرأي العام الغربي تجاه التضامن والتعاطف مع فلسطين وأهلها، مشيراً الى أن هذا التغير مؤشر على استحالة إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية.
في صحيفة الـ "واشنطن بوست" التي بدأ الرجل الكتابة فيها منذ أقل من سنة، كان خاشقجي مهتماً ومركزاً على التغيرات التي تجري في بلاده. رغم حب الرجل لفلسطين مثل الغالبية العظمى من أبناء شعبه، إلا أن ذلك لا يمنعني من التساؤل: ترى لو اختار خاشقجي أن يكتب عن مأساة فلسطين وأهلها، هل كانت ستعطيه صحيفة الـ "واشنطن بوست" واسعة الانتشار مساحة للكتابة فيها بشكل دوري.
الجواب قطعاً لا.
الرجل أُعطيَ مساحة في الصحيفة ليقدم رأياً، وجهة نظر، عن بلده بحكم خبرته الطويلة وسعة علاقاته فيها ولأن "العربية السعودية" هي هدف الصحيفة، لا الرجل نفسه.
أن يجعل الإعلام الغربي من اختفاء "خاشقجي" قضيته الأولى منذ أسبوعين وأن يتمكن من خلال ذلك من إقناع عشرات الشركات الكبرى والبنوك وشركات الإعلام من مقاطعة مؤتمر الاستثمار السعودي الثاني هذا الشهر. وأن يتمكن أيضاً من دفع غالبية الدول الغربية للضغط على العربية السعودية لتقديم إجابات عن اختفاء الرجل، فيه أسئلة ودلالات:
هل اللغز في التغطية المكثفة، أهمية الرجل، أهمية البلد (العربية السعودية)، مكان اختفاء الرجل، كراهية الإعلام الغربي لشخص ترامب وبالتالي لعلاقته الخاصة بالسعودية؟
أم أن السبب يعود الى تجمع نادر لكل هذه الأسباب؟ ولعلنا نضيف هنا الخلاف بين السعودية وقطر الذي جعل "الجزيرة" تنضم بحماس غير مهني الى التغطية الإعلامية لقضية خاشقجي مقدمةً إياها في نشراتها الإخبارية على عمليات القتل التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة والضفة.
لا يمكن الجزم بإجابة قاطعة هنا، لكني أميل الى ترجيح اجتماع جميع هذه العناصر معاً.
الرجل يكتب في صحيفة عالمية، والسعودية لها وزن اقتصادي عالمي لا يمكن تجاهله، والقنصلية، المكان الذي اختفى فيها الرجل، لم يختف فيها أحد منذ مئات السنين. هي مكان للجوء والحماية والاختفاء الطوعي. وكل ذلك تصادف أيضاً مع كراهية الإعلام الشديدة لشخص ترامب، وبالتالي لعلاقته مع العربية السعودية.
من سخرية القدر، أن حادثة اختفاء خاشقجي، والضغط الإعلامي على إدارة ترامب حتى يقوم بدوره بالضغط على العربية السعودية، ستمكنه أكثر من ابتزازها لأن ترامب لا يهمه الرجل ولا ما تفعله العربية السعودية، ولكن دولارات الأخيرة. كان واضحاً في ذلك خلال حملته الانتخابية، وتصريحاته منذ أصبح رئيساً متسقة مع سعيه المستمر وراء أموال دول الخليج العربي.
في الدلالات، أشعر برغبة شديدة بالمقارنة بين التغطية الإعلامية الكثيفة لقضية خاشقجي وقيام إسرائيل بحصار غزة منذ أكثر من عشر سنوات وقتل الآلاف من أبنائها في الحروب التي شنتها عليها، وفي استمرار احتلالها لفلسطين.
ترى لو حظيت غزة بربع هذه التغطية الاعلامية الغربية، هل كان الحصار على أكثر من مليوني فلسطيني سيستمر كل هذا الوقت؟ هل كان الاحتلال سيستمر سبعين عاماً؟ هل كانت إسرائيل ستتجرأ على قتل الفلسطينيين يومياً وإذلالهم؟
التغطية الإعلامية الكثيفة كانت ستفعل فعلها: وزراء خارجية الدول السبع كانوا سيهددون بعقوبات اقتصادية على إسرائيل. الكونغرس الأميركي كان سيصدر بياناً يهدد بإيقاف المساعدات العسكرية لإسرائيل. ولربما فعلتها دولة لاستصدار قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة يعطي فيه مهلة لإسرائيل للانسحاب أو تحمل "عواقب" عدم انسحابها، تماماً مثلما جرى مع العراق عندما احتل الكويت، أو عندما تم إسقاط القذافي وقتله.
أقول ذلك لتسليط الضوء فقط على ازدواجية المعايير ليس في قرارات الدول وسلوكها، ولكن في الإعلام الغربي أيضاً الذي يدعي الاستقلالية والمهنية وحمايته ودفاعه عن حقوق الانسان.
عندما قلت ذلك لصديق "غربي"، أجابني: قد نكون عاجزين عن الانتصار لقضية فلسطين العادلة، لكن أفهم من كلامك أن علينا أن لا نحاول حماية الآخرين عندما نكون قادرين على ذلك. مضيفاً: إذا كان هنالك شخصان يغرقان في البحر ولديك فرصه لانقاذ أحدهما فقط، هل ستقوم بإنقاذه أم ستمتنع عن ذلك حتى لا يقال بأنك فضلت إنقاذ أحدهما وتركت الآخر يغرق؟.
لم أعرف ماذا أجيبه حقيقةً. قلت له ممازحاً: سأنقذ أحدهما وسأترك الفلسطينيين يغرقون!
بقلم/ محمد ياغي