في الدول عريقة الديمقراطية تتقلص سلطة الرئيس في آخر سنة من ولايته الأخيرة، ولكن ذلك لا يشكل أي نوع من التحدي على سلطان الدولة، ولا على وحدة النظام، أو حتى على الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس المنصرف.
وذلك لأن الفاعلين السياسيين لا يرتبطون بمن في السلطة ولا بمن تؤول إليه، إلا بقدر ما يحقق مصالح السلطة، ومصالح الدولة، ومصالح الفاعلين، وفي المنكب البرزخي لا يرتبط الفاعلون إلا بمن في السلطة، وينتقل ارتباطهم آليا إلى من تؤول إليه حين يعرفونه.
وحين لا يريد من تؤول إليه السلطة، أو لا يكون من مصلحته (من منظور السلطة، ومن منظور الوفاء، ومن منظور بناء اليات الانتقال) أن ينتقل إليه الولاء آليا، فإن الحالة تكون مخاضا عسيرا تمر أيامه ببطء، وارتباك، وربما بتعثرات.
إرادات الانتقال
تتنازع انتقالَ الولاء إرادات ثلاث تلتقي وتفترق في موقفها من طبيعة الانتقال وتعبيراتها ومضامينها، ولا يجمع بينها في الغالب إلا إرادة الانتقال وحدها.
هنا إرادة المنتقلين الذين يؤثرون السرعة، والضجيج، ويركنون إلى الأساليب المألوفة في كرنفالات التأييد، وبأقصى درجات المبالغة في إظهار الإخلاص للمنتقل إليه، ولو أدى ذلك إلى قلب ظهر المجنِّ للمنتقل عنه.
وتكون إرادة المنتقل عنه عكس هذه الرؤية؛ فهي ترغب في تأخير الانتقال قدر طاقتها، وتريده ولاء بواسطتها، وليس ولاء مباشرا للمنتقل إليه، على الأقل في المراحل المبكرة. ليس عن سوء نية بالضرورة، وإنما رغبة في إبقاء الأمور قيد السيطرة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
أما إرادة المنتقل إليه، فتكون حالة مركبة من إرادة الطرفين الآخرين؛ فهي تريد انتقال ولاء كامل، وصادق، ولكنها تريده انتقالا "غير صادم، وغير مدوٍّ"، لأنها لا تريد أن تدفع فيه أكثر من ثمن ولاء مضمون الانتقال، غير مضمون الصدق، وغير مضمون الاستمرار.
وهنا تقع الأطراف الثلاثة في ورطة الرغبة في عدم الصدام، والرغبة في الانتقال بأقل التكاليف؛ فلا المنتقلون راغبون في صدم من ينتقلون عنه خوفا أن يكون لذلك أثر سلبي يلحقهم في باقي أيام الرئيس المنصرف.
ولا الرئيس المنصرف يريد صدم الرئيس القادم بتأخير تسليمه ولاء المنتقلين، ولا الرئيس القادم راغب في صدم سلفه بإبداء الرغبة في سرعة استلام التركة، ولا صدْمَ التركة نفسها بإبداء الصدود عنها.وهنا يكون ملتقى الإرادات صعبا، ومعقدا، ومحفوفا بالمزالق؛ فالانتقال يراد له أن يكون "صادقا" و"سريعا" و"غير صادم"، وكل واحدة من الثلاث تطرد الباقيتين.
تقتضي مصلحة الدولة، والنظام السياسي، اغتنام فرصة الانتقال السلس لترسيخ بعض الأعراف المصاحبة للانتقال، وإزالة بعض اللبس في علاقة النخب بدوائر التأثير في النظام السياسي.
الحل في "أنصاف الأخطاء"
ينتج التقابل بين الإرادات المتزامن، والمتداخل مع "مخاض القطيعة" أنصاف أخطاء من الحجم الثقيل؛ فما يكون صوابا في حق واحد من الأطراف يكون في الغالب خطأ في حق طرف أو أكثر من أطراف العملية، في الوقت نفسه.
ويزداد تعقيد الحالة حين يضاف للمعادلة طرف رابع يمثله الداعمون الجدد، والواقفون في صعيد التردد، والمُؤمِّلون الراغبون في رؤية المختلف الجديد، والحالمون بالتغيير والقطيعة.
إن هؤلاء يريدون القطيعة دفعة واحدة، ويحلمون، ولهم الحق، في أن يروا شيئا جديدا بالمرة، ولو جرهم ذلك إلى نسيان أو تناسي منطق الأشياء، وحقائق الواقع.
وفي مساق المخاض هذا تقع "أنصاف الأخطاء" التي يعدها فريق الرئيس المنصرف واجبا يقتضيه الوفاء لعِشْرة الحكم، ويراها الرئيس القادم وفريقه أقلَّ واجب المجاملة لسلف يتقلص دوره مع الأيام، وتبقى له الذكرى الجميلة، والذكر العطر على الألسنة، مع انطواء النفوس على حقائق موافقة أو مغايرة لما يجري الحديث عنه، ولكن تلك الحقائق ليست ذات أثر اليوم في السلوك.
ويراها الفريق الرابع خطايا وانتكاسات طامسة لما لمع قبلها من بوارق الاستقلالية، وبروق القطيعة.
وهي في حقيقتها "أنصاف أخطاء" تنحت من رصيد الجدة، والاستقلالية، وتعزز رصيد الثقة الداخلية للنواة الصلبة، وتطمئن المجاميع الطامحة إلى استدامة الحال. ليست أخطاء كاملة بالمطلق لأنها في جزء منها مستساغة، واضحة الأسباب؛ فليس من الإنصاف مطالبة الشريك بالتخلي عن شريكه، أو الطعن فيه لحظة الوداع. إنها وقاحة تطالب بالغدر باسم إرضاء أوهام التغيير.!
الحل هو سياسة "خطوة جديدة"، وخطوة أو اثنتين في السياق، لا تعودان على الخطوة الأولى بالنقض، ولكنهما تديران جانبا آخر من المعركة الصامتة للانتقال، ومخاضه العسير.
وفي دائرة أنصاف الأخطاء يمكن أن نجد حديثا عابرا في مداولات، وتقديم واجهة محافظة على النسق المألوف، أو تحركا هنا وإيماء في اتجاه آخر.
ولا تصلح أنصاف الأخطاء أساسا لنسف الخطاب الرسمي، الذي هو الصالح وحده لمحاكمة الناس، واختبار مواقفهم.
الحالمون يطمحون لأن يروا القطيعة في يوم وليلة، والمحافظون يريدون نسخة طبق الأصل مما ألفوا.
والواقع والمنطق يقولان إن استنساخ الماضي غير مطروح ولا ممكن، وربما غير مراد، حتى من القائمين على الماضي أنفسهم.
ويقول المنطق والواقع أيضا إن القطيعة غير ممكنة، ولا ناجعة، ولا مطلوبة.
فحين يكون الانتقال سلسا إلى الدرجة التي نحن بصددها يكون مخاضه عسيرا بالدرجة التي نحن شهودها الآن.