لا يختلف اثنان اليوم في موريتانيا، أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، يتمتع بشبه إجماع وطني، غير مسبوق في التاريخ الوطني، يؤهله للقيام بأي خطوة يراها مناسبة، لانتشال البلاد والعباد من الوضع المزري، الذي وجدها فيه، بعد عقد من الضياع والنهب واللاقانون واللامعيار، والذي حول البلاد إلى ريشة، تتقاذفها الفتن العرقية والفئوية والفقر والإنهاك الشامل، سواء على مستوى الريف أو الحضر: حيث تلاشت غالبية الثروة الحيوانية وانهارت القوة الشرائية واختفت مؤسسات عمومية حيوية وأخرى خصوصية، بفعل فاعل.. فتراجع كل شيء في هذا البلد، باستثناء مؤسسات الرئيس المنصرف، ومداخيله الفلكية.
جميع من دعم الرئيس ولد الشيخ الغزواني، رآ في خطاب إعلان ترشحه، نقيضا "للنهج" ول"العشرية"، لذا اندفع الناس ذاتيا لتأييده، بغية التخلص نهائيا من "نهج" ومسار سلفه، وتوديعهما إلى الأبد، لكن المواطنين صدموا بتصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة، المؤكدة أن نظام غزواني، هو استمرار لعشرية عزيز، وتطبيق أمين لمفرداتها.. ورغم ذلك علل البعض هذه التصريحات بأنها لفتة أخلاقية ونهج يعبر عن أخلاق الرئيس الجديد، الذي يستحيل- بفعل تربيته وخلفيته العائلية- أن يكون صورة طبق الأصل لسلفه، مؤكدين أن تلك التصريحات، هي لخلق واقع مطمئن للرئيس السابق ورجالاته المهيمنين على كل شيء في البلد، كي لا يؤزموا الوضع الجديد ويصبحوا عائقا مقلقا لرئيس يخطو خطواته الأولى في السلطة، لا زال يجرب الحكم بأسلوب ديمقراطي، هو نقيض لمتطلبات البزة العسكرية وسلاسة انقياد مؤسستها.
بالتزامن مع هذا الواقع، الذي كاد أن يسبب حالة اكتئاب جماعية، ظهر فجأة على سطح المشهد السياسي في البلد- وبشكل فجائي-الرئيس السابق ولد عبد العزيز، وهو في عنفوان المنتصر، المتعالي على الجميع، الماسك بخيوط لعبة، اعتقد أنه نسجها بإحكام قبل ذهابه عن السلطة، كفيلة بتكريسه لاعبا أوحدا في هذه البلاد، التي استحوذ على مجمل مقدراتها وهيمن على قراراتها، منذ 03 أغسطس2005.. ظهور سبب حالة هيجان داخلي وتبرم جماعي داخل النخبة والشعب على حد سواء، صاحبها صبر أيوب من طرف رأس السلطة القائمة، انتهت فصوله العلنية بالمؤتمر الصحفي الخميس الماضي.. الشيء الذي فرض على النظام القائم – مكرها لا مخيرا- مجموعة خطوات متسارعة أمنية وسياسية في ظرف دقيق، كي لا يؤخذ على غرة ويلدغ في جحره، بنفس الطريقة، التي لدغ بها آخرون، فأصيبوا في مقتلهم.
المخاض الصعب وضرورات الحسم
لا شك أن ولادة النظام الحالي تمت من رحم النظام السابق، وهو ما يجعله رهينة لرجالاته لبعض الوقت وغير قادر على التخلص بشكل ثوري من أردانه وعوالقه الظاهرة والمتخفية.. من هنا يمكن أن نفهم حرص الرئيس غزواني على أن يظهر بمظهر المتماهي مع نظام سلفه- رغم تعجل النخبة والشارع على الطلائق البائن معه- مراهنا على عامل الوقت للتخفيف من حضور سدنة نظام عزيز ومخلفاته، لكن لقاء ولد عبد العزيز المفاجئ بلجنة تسيير الحزب، شكل صاعق تفجير لكل المخاوف المكبوتة داخل النخبة المنخرطة في حزب الاتحاد وأغلبيته القديمة وتلك الوافدة من المعارضة الراديكالية للنظام السابق، زاد من مخاوفهم، حرص النظام الحالي على أن يظهر بمظهر المتماهي مع سلفه، فكانت ردود الفعل الغاضبة على مستوى الشارع والنخبة أبلغ دليل على الرفض العارم لتكرار تجربة العشرية والتماهي مع نهج دمر حياة الناس في الريف والحضر وأدخل موريتانيا إلى نفق تتعايش فيه مظاهر ما قبل الدولة مع هياكل تحاكي الدولة العصرية وتتحدث باسمها.
وبما أن ولد عبد العزيز، تصرف بعقلية الواثق من نفسه والماسك لخيوط اللعبة والقادر على تحريك ملفات تدمر الحياة السياسية للموالين والمعارضين على حد سواء، فقد صار لزاما على النظام الحالي، أن يكشف له ولخاصته عن وجه مغاير، يشعر المواطن أنه محمي من استمرار "نهج" سئمه ودمر حياته، ومقبل على آفاق ستنسيه مرارات العشرية وتداعياتها المقلقة.
فتجارب الماضي- التي لا زالت حية في الذاكرة، واحتمالات تكرارها وحصول تداعيات تهدد النظام الجديد.. دفعتاه إلى التخلص من قفازاته اللينة والتعجيل بنزع عناصر التهديد الماثلة أو المحتملة، ، فقام بخطوات جوهرية، سلبت عزيز أي فرصة لرد الفعل وحرمته من جميع عناصر القوة التي كان يراهن عليها بعد حنينه المفاجئ إلى دهاليز السلطة، بغية الإحتفاظ بموقع فاعل يكرسه لاعبا في الظل، ويحول صديقه الذي رشحه إلى مجرد "محلل" أو"مدفديف" في أحسن الأحوال، خانع وغير قادر على الفعل والتأثير.
أمام واقع كهذا، فهل من المقبول أن يبقى الرئيس ولد الغزواني منتظرا الفعل ليرد عليه، أم أنه يجب أن يكون مبادرا، فيزيل جميع الألغام والأشواك، التي قد يكون قد وضعها له سلفه، بغية استمرا "النهج" وترسيخ أقدام فرسان العشرية المنصرمة؟
لا شك أن لكل مرحلة رجال ولكل نهج أدوات، تعززه وترسخه داخل المنظومة الاجتماعية والسياسية والإقتصادية، لذا أصبح لزاما على الرئيس غزواني، أن يتحرك بسرعة القائد المتمرس وشجاعة الفارس المقاتل ودهاء السياسي المحنك، من أجل أن يحمي نظامه واستقرار بلده.. خيار لا يمكن أن يقوم به، بواسطة رجال، مشكوك في ولائهم له، وجهاز إداري منزوع الدسم، وخطاب سياسي متردد، بلا مضمون بارز، تنقصه الحيوية والجاذبية، ولا يشكل قطيعة كلية مع "النهج" والتواءات العشرية الممقوتة.
لذا- وخوفا من الارتدادات غير المتوقعة- يجب على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يقوم بالخطوات التالية:
* الخروج فورا من المنطقة الرمادية، ووضع معالم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية واضحة لحكمه، تكون من إنتاجه، لتشكل جوهر الخطاب السياسي لنظامه.
* الطلاق البائن مع العشرية ووضع فرسانها وسدنتها حيث يجب أن يكونوا.
* القيام بخطوات متسارعة واتخاذ قرارات واعية، وواثقة، تربك الخصم وتشل قدرات مراكز النفوذ ولوبيات الفساد والمصالح.
* فرز رجال يدينون ل"تعهداته" بالولاء، غير ملطخين بنهج العشرية ولا ملوثين في مواقفهم الوطنية ومحطاتهم السابقة.
* الاستفادة من تجارب لبنان والعراق، بخصوص المحاصصة والتعامل معها كأكبر تهديد للكيان وللحمته الوطنية، واستبدالها بالكفاءة والفاعلية والمردودية، كمعيار للتوزير والتعيين في المواقع الحساسة.
* رد الاعتبار للكفاءة والخبرة ونسف القوالب العنكبوب، التي ترسخت كحقائق، بفعل الفساد والسياسات المعتمدة على الآنية، اللا واعية والمتخلفة.
* إنشاء مراكز بحث على كافة الصعد وخلق مؤسسات بحثية، تساعد السلطة على اتخاذ القرارات الوطنية الصائبة، والاستعانة بالتجارب العالمية والإقليمية الناجحة، بعيدا عن ألاعيب ووصفات المؤسسات المالية الدولية، ذات الخلفية والأهداف الإستعمارية.
*اعتماد الشفافية والصرامة والمهنية والمكفاءة والعقوبة أساسا للمرفق العمومي، والسعي لتحويل البلاد إلى نموذج يحتذى به، بدلا من أن يبقى جهة موجبة للتندر والشفقة.