في هذه اللحظة المظلمة من تاريخ إيران، وخلال هذه الأيام، يتعرض المئات والآلاف من الشباب والنشطاء السياسيين الإيرانيين في طهران والمدن الإيرانية للاعتقال والتعذيب وربما التصفية، بعد فشل ما سمي «انتفاضة البنزين»، والذي تسبب فيها الازدياد الكبير في أسعار وقود السيارات والعربات، وبعد خروج الناس في عشرات المدن والمناطق الإيرانية.
لا نريد التدخل في الشؤون الداخلية لدولة كبرى من دول الجوار، ولكن القوى السياسية والأمنية والعسكرية التي تمسك بزمام الأمور في إيران منذ سنوات وبخاصة «الحرس الثوري» ومتشددي «حزب الله» و«الباسيج» وغيرهم لم يكفوا كذلك عن التدخل في شؤون أي دولة مجاورة أو غير مجاورة أو بعيدة تماما، وبشكل يشتكي الإيرانيون أنفسهم أنه أضر بمصالحهم وحرية حركتهم أشد الضرر، إذ تم منع وتحريم دخول الإيرانيين في دول عديدة أو تقليصه بما في ذلك دول غير معادية لإيران كالكويت ودول مجلس التعاون، وتعقدت حياة مئات الآلاف من رعايا إيران في كل مكان وبخاصة في الدول الغربية الأوروبية والأميركية.
إن أحداث إيران تأتي مرافقة للمظاهرات والاحتجاجات الكبرى في لبنان والعراق، وهما البلدان صاحبا العلاقة الوثيقة بالجمهورية الإسلامية بهذا الشكل أو ذاك، حيث نرى فيهما تحركا جماهيريا واعتراضات واسعة، ولكن النظام السياسي والأمني حتى في هذين البلدين لبنان والعراق، رغم حجم الاعتراض والثورة، أكثر رحمة وتسامحا وتوعدا مع المعارضة، وأكثر تساهلا مع حرية الرأي وحق التعبير من النظام الإيراني وتهديداته للمعارضين ومطاردته لهم، حيث قتل أكثر من مئة متظاهر، ويقال إن السلطات تطلب من أهالي المشاركين الذين قُتلوا مبالغ من المال مقابل تسليم الجثة للأهالي!
ولا شك أن السبب الأول في مخاوف إيران من أي صوت معارض هو حجم مخاوفها من اتساع رقعة الشكوى ومطالب المواطنين الذين يطالبون السلطات دوما بالكف عن سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى، وإنفاق دخل الدولة وثرواتها على مواطنيها الذين يزيد عددهم اليوم على مئة مليون نسمة بينهم ملايين الفقراء والعاطلين.
وبعكس لبنان والعراق اللذين لا تبدو قدرتهما على القمع أو الحد من الاعتراضات والمسيرات، نجحت إيران في وضع حد لها خلال فترة قصيرة في عشرات المدن والمناطق، ولعل السبب في قوة هذه الأجهزة الأمنية والقمعية والاستخبارات الإيرانية تعددها الذي يزيد كما يقال على عشرة، وتنوع تخصصاتها في كل فرع، في الداخل والخارج، وضم صفوة الأجهزة السابقة وحسن تدريب عناصرها. وهناك كذلك سمعة هذه الأجهزة المخيفة وتغلغلها في كل مسارات الحياة، وليس من المستبعد، كما يؤكد الدارسون لها، أن تكون مبنية وفق نهج أجهزة ألمانيا الشرقية أو كوريا الشمالية التي تعتبر القمع والأمن مسألة حياة أو موت للنظام، كما لا يخضع الجهاز طبعا لمراقبة البرلمان، وترتبط بمرشد الثورة مباشرة. ومن المؤسف أن الشعب الإيراني الذي قاد بقومياته ومذاهبه وأديانه إحدى أعظم ثورات القرن العشرين ضد القمع والاستخبارات في عهد النظام السابق، والذي كان يقوده «السافاك»، يتعرض اليوم بعد أربعين عاما من ثورة «الجمهورية الإسلامية» تلك، وتحت إرشاد الولي الفقيه، إلى واحدة من أكبر عمليات تكميم الأفواه ومطاردة المعارضة بين بلدان الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
ومن المعروف أن الشيعة بخاصة في العالم العربي مهتمون بدرجة وكمية الحريات السياسية والمذهبية في الحياة العامة والبرلمان والصحافة، فلماذا لا يتساءل الشيعة: لمَ توجد في معظم بلدان العالم وبرلماناتها أحزاب وشخصيات وصحافة وجمعيات ونقابات معارضة، ولا أثر لكل هذا وغيره في إيران التي لا تسمح إلا لصوت واحد هو الصوت الرسمي، كما هي الحال في كوريا الشمالية، والذي لا يصل إلى الناس في إيران إلا عبر القنوات الرسمية، وما تسمح به، فلا وجود في إيران للصحافة الخاصة الحرة، ولا محطات التلفاز غير الحكومية، وبالرغم من حجم الاعتراض الحالي والمظاهرات في إيران على مدى عدة أيام فإن التلفزيون الإيراني لم يتحدث عنها، ولم يصورها بعكس لبنان والعراق مثلا، ولم تسمح السلطات الإيرانية بالطبع لوكالات الأنباء العالمية والقنوات الأجنبية بدخول إيران، فما رأي البرلمانيين والصحافيين والمحامين من أنصار «الجمهورية الإسلامية» في هذا كله؟
وتهاجم أجهزة الإعلام الإسلامية الإيرانية دوما إسرائيل! ولكن حتى هذه الدولة العبرية اليهودية رغم يهوديتها دولة متعددة الأحزاب حرة الصحافة، حيث كانت صحف اليسار فيها مثلا تهاجم الصهيونية علنا، وتدافع عن حقوق العرب، كما أن إسرائيل ذات برلمان مطلق الحرية في النقد والاعتراض، وحكومة منتخبة، وجهاز قضائي مستقل يطول أكبر الشخصيات، ولا يتحكم في أجهزة الدولة أو البرلمان حاخام إسرائيل الأكبر، ورغم أن إسرائيل محاطة بدول غير صديقة وبصواريخ حزب الله فإن الدولة لا تعرف لجنة إسرائيلية للدفاع عن مصالح النظام الإسرائيلي اليهودي!
ولم نسمع في المقابل، وعلى مدى أربعين عاما في إيران منذ سنة 1979، وصول أي حزب أو تيار أو شخصية مستقلة إلى البرلمان الإيراني، لها برنامج مختلف عن الحكومة، كما هو الأمر حتى في تركيا الإسلامية مثلا أو دول عربية أخرى وغير عربية، كما لم نقرأ عن صدور صحيفة إيرانية معارضة حتى إن كانت فكرية أو ثقافية أو تصدر بشكل شهري أو موسمي أو سنوي أو لا تصدر على الإطلاق! ولا تنعقد في إيران أي ندوة سياسية شبه حرة لمناقشة قضايا الشرق الأوسط مثلا!
وفي الجمهورية الإسلامية عشرات الصحف ومحطات التلفاز، وفيها حركة نشر وطباعة هائلة، لكن كتبها ومحاضراتها صديقة ومسالمة، فهل يعقل هذا في زمن ثورة المعلومات والإنترنت وسهولة تبادل وإرسال المنشورات والكتب الممنوعة؟
ثم أين فقهاء ومجتهدو الشيعة في إيران بعد أن تحولت الدولة كلها إلى نظام شيعي اثني عشري؟! فقد كان المجتهدون فقهاء الشيعة الإمامية الكبار من أبرز زعماء الحركات المعارضة للأنظمة السياسية في إيران، وبخاصة في العهد القاجاري 1796-1925 والعصر البهلوي 1925-1979 بل كانوا من قادة الثورة الدستورية 1905-1911 والثورة الإسلامية 1978-1979.
وكان رجال الدين في أوج الثورة الإسلامية 78-1979 يقودون المسيرة بعد المسيرة ويشيعون جنائز من يسقط دفاعا عن الثورة ومعارضة الشاه، وسط مظاهرات حاشدة، أو يقفلون الأسواق ويشلون الحياة السياسية والاقتصادية، فأين اختفى رجال المرجعية؟ وأين حتى أصوات رجال الدين من أهل السنّة في منطقة كرمانشاه ومناطق الجنوب وخراسان؟ ولماذا لا يتحرك أحد سوى المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني وحده ضد الفساد والغلاء وتدخلات ولاية الفقيه في شؤون العراق؟
الكل يعرف أن المرجعية الشيعية لم تعد حرة، لا في إيران ولا العراق ولا لبنان! يدرك قادة إيران جيدا أن الحل الأمني لن ينجح لأن هذا الحل لم ينجح في أي مكان، إن الجمهورية الإسلامية دولة رئيسة في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي وعلى الصعيد الدولي، وإيران مدعوة إلى التغيير والانفتاح والارتقاء من الثورة إلى الدولة، والابتعاد عن الأوهام السياسية والتدخل هنا وهناك، وإلى تحمل مسؤولياتها السياسية والاقتصادية والدولية كقوة استقرار وتطوير بدلا من كل هذه القلاقل في الخارج والاضطراب في الداخل.
فلا حاجة لها وسط عالم إسلامي يزيد عدد دوله على الخمسين دولة وشعوبه على 1500 مليون نسمة إلى فرض «الحجاب الإجباري» على نساء إيران دون سائر نساء العالمين، ولا حاجة لإيران كذلك لتعقيد وإساءة علاقاتها مع مختلف دول العالم، ولا إلى إجبار الشعب الإيراني على معاناة كل هذه الظروف القاسية والتعامل بأوراق نقدية لم تعد لها أي قيمة حقيقية، في حين تتراكم ثروات قادتهم في الداخل والخارج، وفي حين تتمتع العملات الخليجية بقوتها الهائلة أمام الدولار!
يقول أحد الكتاب اللبنانيين: «قبل أيام قليلة من اندلاع انتفاضة البنزين في عدد كبير من المدن الإيرانية وصف الرئيس الإيراني حسن روحاني زمن بلاده الراهن بأنه الأصعب منذ بداية الثورة حتى الآن، وبعد أن استعرض واقع التراجع الحاد في مبيعات النفط، وعرج على أزمة التهرب الضريبي التي تبدد ثلثي ما ينبغي تحصيله للخزينة أكد أن البلاد تعاني من فقدان الدولار وغيره من العملات الأجنبية، التي من دونها لن يكون بوسع الدولة أو القطاع الخاص توفير مروحة كبيرة من السلع والخدمات كالنفط وقطع الغيار والمواد الغذائية الأساسية والأدوية ودفع الرواتب لموظفي الحكومة في الخارج ونشاط البنوك الإيرانية في معاملاتها الخارجية».
(الشرق الأوسط، 19/ 11/ 2019).
لقد أخمدت قوى الأمن والحرس الثوري والباسيج انتفاضة البنزين 2019 الحالية، ويتمنى أصدقاء إيران ومن يحترم شعبها ومكانتها ومقعدها الفارغ في المنطقة ألا ينخدع قادتها بغرور القوة وجبروت الأجهزة القمعية المتوافرة اليوم لتكميم الأفواه والإخضاع. وعليها أن تعي قبل فوات الأوان أن استقرار إيران مهم جدا للإيرانيين ولكل سكان المنطقة الخليجية والعربية، وأن هذا الاستقرار، كما يعرف كل عقلاء إيران، لا يتحقق من خلال دخان القنابل والبنادق والدراجات النارية ورجال الاستخبارات والأمن السري وغير ذلك.
فكم من حكومات ودول وأنظمة كبرى وصغرى خدعت نفسها طويلا بمثل هذا الوهم، ولم يرحمها التاريخ!
خليل علي حيدر كاتب
نقلاً عن "الأيام"