فى مطلع شهر مارس، ومع بدء ظهور «كورونا» فى مصر، دار حوار مبكر فى الإعلام أولا ثم فى المجتمع بشكل أوسع عما إذا كان الأهم منع انتشار المرض أم الحفاظ على عجلة الاقتصاد دائرة. وسرعان ما اشتعل النقاش بين مؤيدى ومعارضى كل اتجاه، مصحوبا بالعنف اللفظى المعتاد فى كل «حوار»، وبدا كما لو كان هناك اختيار حقيقى ينبغى حسمه بين الصحة والاقتصاد.
والحقيقة أن طرح الموضوع على هذا النحو لم يكن سليما من البداية، لأن طبيعة المجتمع والاقتصاد المصريين- كما هو الحال فى العديد من البلدان النامية- لا تتحمل تعطيل النشاط الاقتصادى على نحو ما جرى فى الدول الأوروبية، ولا تستجيب للانضباط والقواعد الصارمة التى طبقتها بعض الدول الآسيوية، وليس لديها من جهة أخرى الاستعدادات الطبية والإمكانات لعلاج كل من يصيبهم المرض.
السياسة الوحيدة الممكنة والواقعية من البداية كانت التوازن بين الحد من الحركة والاختلاط بين الناس بالقدر الذى يحمى المجتمع من الانتشار السريع للمرض، وبين الإبقاء على ما قدر من النشاط الاقتصادى وتجنب ركود عميق وبطالة يجلبان تداعيات خطيرة على حياة الناس وعلى استقرار البلد. هذا التوازن كان يقتضى إعطاء الأولوية المطلقة لتلك الأنشطة التى تحقق شرطين: أن يكون عائدها كبيرا من حيث الإنتاج والتشغيل، وأن يكون من الممكن تطبيق ضوابط وقائية عليها. هذا فى تقديرى كان الاختيار الوحيد السليم، بعيدا عن التصورات غير الواقعية عن الغلق الكامل للنشاط، أو عن ترك الحياة تسير دون تدخل وقائى.
والحقيقة أن الحكومة سلكت فى مطلع الوباء ما أظن أنه كان مسارا سليما حينما سارعت فى منتصف شهر مارس بتطبيق ثلاث سياسات متكاملة وواقعية: السياسة الأولى هى غلق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التى لا تدر عائدا اقتصاديا، بما فيها دور العبادة والمدارس والجامعات والنوادى والفنادق (التى كان الإقبال عليها قد انهار فى كل الأحوال) مع فرض حظر تجوال صارم فى المساء. والسياسة الثانية هى الإبقاء على نشاطى المقاولات والصناعة وبعض التجارة الضرورية مع وضع ضوابط للعمل فيها. أما السياسة الثالثة فكانت إطلاق برنامج دعم العمالة غير المنتظمة للحد من الآثار الاجتماعية للوباء. وفى تقديرى أن هذه الموجة الأولى من القرارات قد حظيت باحترام وقبول واسعين لدى الرأى العام، مع أنه لا أحد كان يتصور قبل «كورونا» أن يَقبل الناس بسهولة أن تُغلق المساجد والكنائس، وتُعطل الأفراح وسرادقات العزاء، وأن يُحظر ارتياد المقاهى بل تدخين «الشيشة»!.
ولكن مع مرور الوقت، اضطربت الرسالة واختلطت الأولويات وزادت الضغوط، فلم تعد إدارة الأزمة محكومة بذات وضوح الرؤية التى تميزت بها فى البداية. لماذا تم تخفيف حظر التجوال قبل رمضان على نحو أوحى للناس بأن الموضوع بسيط؟ ولماذا كثرت تصريحات الوزارة والوزيرة بأن مصر ليست فى خطر؟ ولماذا لم يتم تطبيق الحظر فى رمضان مع موعد الإفطار؟ ولماذا جرى فتح الفنادق بطاقة ٢٥٪ مع بدء ارتفاع أرقام المصابين؟ وكيف تتعافى السياحة وتجذب سواحا أجانب فى الظروف الراهنة؟ وكيف يمكن التفكير الآن فى فتح المقاهى بينما نطالب الناس بمزيد من الحذر والتباعد؟ وما منطق أن يحظر ارتياد الشواطئ عموما بينما يسمح به لنزلاء الفنادق؟
أقدر طبعا أن الضغوط الاقتصادية هائلة، وأن قطاعا كبيرا من المجتمع لا يمكنه البقاء فى المنازل والتوقف عن العمل ولا لبضعة أيام، ولهذا فإن الحديث عن الغلق الكامل لم يكن من البداية جديا، ولا يزال حتى الآن غير واقعى. ولكن ما أقترحه هو إعادة النظر فى الأولويات، وتقديم الأنشطة الاقتصادية التى تحقق عائدا فى التشغيل والإنتاج مع إمكان ضبط الإرشادات الصحية فيها على تلك التى لن تدر إلا عائدا محدودا، بينما تساعد على زيادة انتشار الفيروس بسرعة شديدة، واستمرار برنامج دعم العمالة غير المنتظمة والقطاعات الأكثر تأثرًا بالأزمة.
المطلوب هو إعادة هذا التوازن الصعب بين الاقتصاد والصحة بعيدا عن الضغوط، وبعيدا عن الفروض غير العلمية، وبعيدا عن المقارنة مع دول انتهجت سياسات مختلفة من البداية، وبعيدا عن الشعور بضرورة طمأنة الناس دون مبرر.
* نقلا عن "المصري اليوم"