“لفت نظرنا أنّ بعض القوى السياسية في الولايات المتحدة تأخذ العلاقات الأمريكية الصينية رهينة وتدفع البلدين باتجاه حرب باردة جديدة”!!! وزير الخارجية الصيني، وانغ يي.
خلُص تقرير صحيفة الفورين أفيرز، Foreign Affairs، الأمريكية، المُعنون بــــ”كيف تنتهي الهيمنة؟ تفكّك قوة أمريكا” إلى ما مفاده إنّ “الاستجابة غير المنسّقة لجائحة كورونا، و أنّ الأزمة الاقتصادية النّاجمة عن تفشّي الوباء، وعودة السياسات القومية، وإغلاق الحدود بين الدول، كلّها مؤشّرات على ظهور نظام دولي أقلّ تعاونًا وأكثر هشاشة، ما يؤكّد، وفقا لمراقبين، مخاطر السياسة التي ينتهجها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، القائمة على شعار أمريكا أولا، وتخلّيه عن دور بلاده في قيادة العالم، وعن التزامها بتعزيز نظام دولي ليبرالي.”
الباحثان ألكسندر كولي ودانييل نيكسون، أشارا بوضوح إلى أنّ “هناك مؤشّرات عديدة تُشير إلى أزمة في النظام العالمي، تُنذر بنهاية هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة وصعود قوى أخرى منافسة”!!!
وكانت دول آسيان، أعربت خلال قمتها الـ 36، “عن قلقلها البالغ إزاء تصاعد التوتّر في بحر الصين الجنوبي داعية إلى حلّ جميع النّزاعات في المنطقة على أساس القوانين الدولية”.
ومع اتساع رقعة الخلافات والمشكلات الدولية، التي ازدادت بشكل كبير في الفترة الأخيرة بسبب تبادل الاتهامات والحرب الإعلامية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الأوروبية، بخصوص بعض القضايا والأزمات ومنها أزمة تفشّي فيروس كورونا وما اعقبه من تطوّرات تُنذر بتسريع مواجهة مؤجّلة، حتى أنّ وزير الخارجيّة الأمريكي مايك بومبيو كان قد أعلن أنّه يملك “أدلّة”، تؤكّد أنّ فيروس كورونا المستجد جاء من مختبر في مدينة ووهان الصينيّة!! وأنّ الرئيس دونالد ترامب نفسه قد ذهب إلى حدّ اتّهام الصين بتضليل العالم، بعد أن “أخفت” معلومات عن انتشار الفيروس!!!
واتهم وزير الدفاع الأمريكي الأمريكي، مارك إسبر، الصين بأنها تستغلّ انتشار فيروس كورونا في العالم لتقوم بــ”أنشطة خبيثة”! كما نشر البيت الأبيض تقريرا مفصلا مؤلفا من 16 صفحة، حمل عنوان “النهج الاستراتيجي إزاء جمهورية الصين الشعبية”، كشف عن مختلف نواحي ما وصفه بـ “أنشطة الصين الضارية” والرامية إلى “تعزيز تواجدها العسكري في مختلف أنحاء العالم، بالإضافة إلى حملات التضليل ومخالفات حقوق الإنسان التي تحمل واشنطن بكين المسؤولية عنه.
تقرير خلُص ال إلى أنّ “الصين تشكّل طيفا واسعا من التحديات الاقتصادية والأمنية أمام الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تشكيلها خطرا على القيم الأمريكية، علاوة على التورّط في عمليات القرصنة الإلكترونية، وأنّ قائمة التزامات بكين بالكفّ عن ممارساتها الاقتصادية الضارية تضمّ كثيرا من الوعود الفارغة والمنكوثة”..
كما تبنّى مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعا جديدا يمهّد الطريق لمنع الشركات الصينية من الاكتتاب في البورصات الأمريكية.
وزير الخارحية الأمريكي، مايك بومبيو، هو الآخر غرّد أخيرا بالقول على صفحته الشخصية بتويتر: “لا يُمكن السماح للصين بأن تنظر إلى بحر الصين الجنوبي على أنّه امبراطوريتها البحرية..سيكون لدينا قريبا ما نقول إضافيّا حول هذا الموضوع”!
بومبيو أوضح أنّ “الولايات المتحدة تعارض بشدّة ما تقوم به بكين من محاولات لجعل بحر الصين ملكا لها”! وأنّ “واشنطن ترحّب بعزم زعماء بلدان رابطة دول جنوب شرق آسيا حلّ الخلافات القائمة في بحر الصين الجنوبي في إطار القانون الدولي، بما فيه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار”. كما زعم أنّ جيش التحرير الشعبي الصيني يقوم بأنشطة عسكرية استفزازية! بقوله: ”هذا يشمل استمرار العدوان في بحر الصين الجنوبي، والنزاع الحدودي المميت مع الهند، والبرنامج النووي الغامض، والتحذير من الجيران المسالمين“!!!
أما وانغ يي وزير الخارجية الصيني فقد حذّر من أنّ “الصين والولايات المتحدة على حافة حرب باردة جديدة”!!!، رافضا “الأكاذيب” الأمريكية حول فيروس كورونا مشيرا إلى “انفتاح” بلاده على جهد دولي لمعرفة مصدره. وموضحا أنّ الولايات المتحدة ، – في استمرارها للحرب الكلامية المتصاعدة بشأن الوباء وهونغ كونغ، أصيبت بفيروس سياسي يجبر المسؤولين هناك على مهاجمة الصين باستمرار. “
نبرة وزير الخارجية الأمريكي الغاضبة وغير الدبلوماسية تعكس مدى وحدّة التوتّر الذي بلغته العلاقة مع الصين وتوجّس الإدارة الأمريكية من تنامي النّفوذ الصيني مما أضحى يهدّد هيمنتها المطلقة.
فحدّة ومدى تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، وتطبيق الرئيس ترامب لشعاره “أمريكا أوّلا”، مع تخلّيه عن دول كانت حتى الأمس تُعتبر المحميات الأمريكية بامتياز، رأت فيه الصين فرصة لا بدّ من اقتناصها، وزيد من قوة الجيش الشعبي الصيني، وتعزّزت ثقة القيادات الصينية بقدرة التنّين في مزيد الانتشار.
كما تغيّرت العقيدة الصينية ورافقها بناء قوتها العسكرية، حتى أصبحت ثاني أكبر منتج للأسلحة في العالم! حسب تقرير لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام. المشارك في إعداد التقرير، نان تيان، قال بوضوح: “لم يعد –الصينيون- بحاجة للاعتماد على دول أخرى للتسلّح” .
كما أنّ مؤسسة راند البحثية أكّدت على اعتماد الصينيين مقاربة “القوة الوطنية الشاملة” التي تكرّس تطوير عقيدة الجيش الصيني بالتوازي مع تنمية قدراته.
تعلو نبرة الأمريكيين حتى يتناسوا أو يُغيّبوا مشاكلهم الداخلية التي تكاد تعصف بالنسيج الوطني ويمضي مسؤولوها في سجال بخصوص قضايا وأمور تحصّ بالدرجة الأولى قوى منافسة صاعدة. فهل يكون ذلك مجرّد هروب إلى الأمام ؟ أم تغطية على غسيل داخلي وجب التعاطي أخيرا معه؟؟ أم المحافظة على عدوّ خارجي تتحلّق حوله الصفوف؟؟؟
المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية، رن قوه تشيانغ، يظلّ محقّا في قوله: “هذا التقرير مليء بالتفكير في الحرب الباردة والهيمنة، مليء بالغطرسة والتحامل والاستنتاجات الكاذبة والتقييمات الزائفة”.
بحر الصين الجنوبي ليس إلاّ الشجرة التي “تحجب” حربا شعواء بين الرغبة في البقاء والبروز وما تحذير مجلّة ناشيونال إنترست الأمريكية، “من استراتيجية حرب بحرية يسعى الجيش الصيني للتوسّع مستقبلا، تعتمد على الذكاء الاصطناعي والغواصات الروبوتية وقيام 3 طائرات عسكرية أمريكية بمهمة استخباراتية كبرى فيه، بحثا عن غواصات صينية، إلاّ الدّليل على أنّ المواجهة لن تؤجّل كثيرا وإن اتخذت أشكالا عدة يرقبها السذّج ولا يسمع طبولها البلهاء!!!
لا شيء يوحي في المنظور القريب، ولا حتى في زمن”الربيع“ العربي، بأن العرب، بما في ذلك عرب”الثورة“، يضعون حدّا لعلاقة الارتهان للولايات المتحدة التي كانت تقايض بها أنظمة العسف بقاءها، أو للصين، ولا هم في، الحد الأدنى، يستفيدون من المعادلات التي تتغيّر، ليراهنوا على أنفسهم هذه المرّة لتشكيل نظام عربي حقيقي، لا يرتهن لا لأمريكا ولا لروسيا ولا للصين ولا لأي قوة أخرى ..كامنة أو صاعدة!
من لا يزال يملك ترف المراوحة والتردّد، فليطرق السّمع لجواب الاستراتيجي المعروف ومستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي، Zbigniew Brzezinski، عن سؤال:”كيف سيكون شكل العالم في ظلّ الانحدار الأميركي اليوم؟“، وهو يرسم لوحة قيامية، مستشرفا التّداعيات المستقبلية لفقدان أمريكا دفّة القيادة، تتمثّل في ظهور سلسلة من ردود الفعل السريعة التي ستغرق العالم في حمّى الاضطرابات السياسية والاقتصادية. ففي ظلّ غياب قوة أخرى جاهزة للعب دور الولايات المتحدة، كما يعتقد، فإنّ “السيناريو الأرجح هو الدخول في حقبة طويلة من الاصطفافات غير المحسومة التي تجمع القوى الإقليمية والعالمية على السواء، لن يكون فيها فائزون كبار.. بل خاسرون كثر”! الخاسرون بمنظوره، هم أولئك الذين رهنوا أمنهم واقتصادهم ومصيرهم بالولايات المتحدة هذه التي يصطفون وراءها في “معاداتها” لروسيا والصين ثم تغيّر سياساتها كلّ ما اقتضت الضرورات أو الإكراهات الإستراتيجية!!!يعدّدهم بريجنسكي تباعا، من:”جورجيا إلى تايوان فكوريا الجنوبية وبيلاروسيا وأوكرانيا وأفغانستان وباكستان وإسرائيل إلى ما سمّاه”الشرق الأوسط الكبير”، ويصفهم بأنّهم”كالأنواع المهدّدة بالانقراض“!، داخل المعادلة الجيو-سياسية العالمية!!!
د. نبيل نايلي
باحث في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، جامعة باريس.