دعونا نتفق أولاً أن أفضل منتوج صدرته سوريا على مدى العقود الماضية للعالم العربي هو الدراما السورية؛ ويعود الفضل بذلك طبعاً إلى تلك الكوكبة من المخرجين والممثلين والممثلات والفنانين والفنانات والمؤلفين الذين دخلوا ملايين البيوت العربية – دون استئذان – بروائعهم التي تصل إلى مستوى العالمية في بعض الأحيان، وقد أحدثت الثورة السورية للأسف شرخاً كبيراً بين الشعب السوري والفنانين، لا سيما وأن بعضهم انحازوا بشكل مباشر وواضح للثورة، وضحوا بمستقبلهم وأرزاقهم، بينما هاجر بعضهم دون أن يعبر عن موقف واضح ومباشر مما يحدث في سوريا. أما البقية فقد ظلّوا في البلد، واضطروا إلى مداهنة النظام بمهاجمة الثورة أو على الأقل الامتناع عن دعمها.
طبعاً لا يمكن أن نضع كل الفنانين في بوتقة واحدة، فشتان بين من وقف مع الثورة بشكل مباشر وخرج في مظاهرات، وكتب وعبّر عن موقفه الصارخ ضد النظام في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، كالرائعين عبد الحكيم قطيفان، وسامر رضوان، وفارس الحلو، ومي سكاف، ويارا صبري، وجهاد عبدو، ومكسيم خليل، وفؤاد حميره وآخرين، وبين الصامتين أو الذين انحازوا للنظام على الأقل ظاهرياً. ولا ننسى الذين اعتقلوا بسبب مواقفهم من الثورة الشعبية كالفنانة ليلى عوض التي تعرضت للسجن بسبب موقفها الداعم للمنتفضين، ومن قبلها عبد الحكيم قطيفان الذي سُجن لسنوات قبل الثورة.
سبق الكتّاب والفنانون الشعب بسنوات في الثورة ومهدوا لها، لقد كانوا طوال الوقت في أعمالهم وكتاباتهم يحذروننا مما سيحل بسوريا، وهذا عمل ثوري بامتياز
وفي الوقت الذي نرفع فيه القبعة للذين انحازوا للحق بشكل مباشر وخسروا كثيراً، إلا أننا يجب ألّا نكون قاسين جداً مع بقية الفنانين السوريين الذين لم يأخذوا موقفاً واضحاً، ويجب ألا ننسى تاريخهم العظيم في فضح النظام وتعريته عبر أعمالهم الفنية بشكل غير مباشر منذ عقود. صحيح أن الفنان الذي يكون مباشراً في تصديه للظلم والطغيان يحتل مرتبة أعلى في قلوب الشعوب من الذين لا يواجهون بشكل مباشر، لكن هذا أيضاً يجب ألا يجعلنا نشيطن الجميع لمجرد أنهم صمتوا؛ ونحن هنا نتحدث عن الكبار فقط من الفنانين، ولا شأن لنا بالشبيحة الذين يحتلون نقابة الفنانين أو يتصرفون كالأنذال كمخبرين ونبيحة مأجورين لصالح أجهزة الأمن، وهم معروفون للقاصي والداني، هؤلاء خارج التصنيف أصلاً وهم عناصر أمنية قذرة شكلاً ومضموناً لكن بلباس فنانين؛ أم البقية فلا يمكن مقارنتهم بنقيب الفنانين الرخيص الذي يسمسر لأجهزة الأمن التي عينته مخبراً وشبيحاً لإرهاب الفنانين والفنانات في سوريا.
كيف تريدون منا مثلاً أن نهاجم المخرج الكبير الراحل حاتم علي لأنه لم يقل أي كلمة ضد النظام ولم يقل أي كلمة لصالح الثورة؟ هل تريدون منا أن نشطبه ونشيطنه ونخرجه من الملة لهذا السبب؟ لماذا ننسى أعمال حاتم العظيمة التي كل حلقة منها تساوي آلاف المظاهرات وآلاف المنشورات وآلاف الشعارات الثورية؟ وكذلك طبعاً نصوص سامر رضوان، وممدوح حمادة! لقد سبقنا فنانون كثيرون إلى الثورة ضد الظلم والطغيان والطاغوت بعقود وعقود؛ لقد قالوا بطرقهم الفنية الخاصة ما قلناه أثناء الثورة وأكثر بكثير، لقد كانوا سباقين إلى فضح الطواغيت وبخاصة الطاغوت الأسدي بسنوات وسنوات. ليس مطلوباً منك أن تخرج في مظاهرات وتشتم النظام كي تكون ثورياً، بإمكانك أن تكون ثورياً بعملك أياً كان. هل هناك عمل فني تاريخي لحاتم علي مثلاً لا يتعاضد مع مفهوم الثورة في أي مكان من هذا العالم؟ وكذلك الأمر بالنسبة للفنان الكبير ياسر العظمة؟ كيف تريدون منا أن ننسى إرثه الفني العظيم على مدى عقود لمجرد أنه لم يخرج في مظاهرات، ولم يشتم النظام بشكل مباشر ولمجرد أنه عاد إلى سوريا؟ هل ترك العظمة أصلاً أي جانب سياسي أو اجتماعي أو ثقافي إلا وثار عليه في أعماله الفنية الرائعة؟ هل ترك شيئاً لم يفضحه ويفككه بروائعه الجميلة؟ هل يصبح ياسر العظمة خائناً للثورة لمجرد أنه لم يعبر عن رأيه على مواقع التواصل أو لأنه عاد إلى البلد؟ ألم تكن كل أعماله ثورة بكل ما في الكلمة من معنى بطريقتها الخاصة؟
هل يا ترى دريد لحام وهو أشهر فنان سوري، وهو من أوصل أفكار محمد الماغوط الثورية التي سبقتنا بالثورة بعقود وعقود بطريقة فنية عظيمة لملايين المشاهدين، هل هو مجرد ممثل أو موظف سلطة أو أداة تنفيس فني في أيدي النظام؟ أضع هنا عشرات إشارات الاستفهام على هذا الكلام.
باختصار، ليس كل من صمت أو بقي في سوريا من الفنانين ملعوناً مطعوناً؛ لا أبداً، فحتى بشار اسماعيل الذي يحسبه البعض على النظام قال في النظام ما لم يقله مالك في الخمر، وفي آخر منشوراته كتب وصية ساخرة يقول فيها: «عندما أموت أريد أن أتبرع بكل أعضائي، ما عدا الأصبع الوسطى، أريد أن أتركها للحكومة السورية» أي النظام طبعاً. وبصراحة عندما أشاهد باسم ياخور الذي يحسبونه على النظام وهو يؤدي دور ضابط المخابرات الطائفي القذر النذل السفيه الوحشي الساقط بطريقته الساخرة: أتساءل، هل يمكن لهذا الفنان الذي يشيّطن ويسفّه ويمسح الأرض بهذا النموذج الأمني الطائفي البغيض بهذه الطريقة الفنية الكوميدية ويجعلنا نحقد عليه، هل يمكن أن يكون مع النظام السافل أو مع هذه التركيبة الطائفية القميئة؟ وللأمانة فإن أداء باسم ياخور الرائع للشخصية الأمنية السورية الطائفية جعل السوريين وأنا شخصياً أكره وأمقت هذا النموذج الأمني الحقير أكثر بعشرات المرات، وأتمني لو أدوسه بقدمي.
أخيراً نقول: رفقاً بالفنانين والكتّاب والأدباء والمثقفين السوريين الذين كتبوا عن الثورة وتناولوها في أعمالهم قبل أن تحدث، من ينسى نصوص سامر رضوان، وبخاصة «ولادة من الخاصرة»؟ عودوا أيضاً إلى مسلسلي «ضيعة ضايعة» و»الخربة» لممدوح حمادة، لقد كانت بعض حلقات «الخربة» أكبر إدانة للنظام، ودعوة حقيقية للثورة على «أبو نايف وأبو نمر» رمزي القذارة والوساخة السياسية الأسدية، ألم ينته مسلسل «الخربة» بثورة حقيقية؟ ولا تنسوا أن في الحلقة الأخيرة من «ضيعة ضايعة» كما يشير أحد المعلقين، تصاب إم الطنافس التي ترمز لسوريا بمجزرة كيماوية؛ وقد حدث هذا بالفعل في سوريا بعد سنوات قليلة من عرض المسلسل!
لقد سبق الكتّاب والفنانون الشعب بسنوات في الثورة ومهدوا لها، لقد كانوا طوال الوقت في أعمالهم وكتاباتهم يحذروننا مما سيحل بسوريا، وهذا عمل ثوري بامتياز لا يقل أهمية مطلقاً عن كل أشكال الثورة الأخرى. فطوبى لمن شارك من الفنانين بشكل مباشر سابقاً ولاحقاً، وكل الشكر للفنانين للذين شاركوا بأعمالهم الفنية والدرامية القيمة.
القدس العربي