لم يعد اليسار الإسرائيلي ضعيفا ومنهكا فقط بل صار كذلك منبوذا. بعد أن كان هذا اليسار هو النواة الأساسية لما بات يعرف بدولة إسرائيل عام 1948 والحاكم لها لسنوات، ها هو في تراجع مستمر في السنوات الماضية لاسيما منذ اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995 حتى بات الآن رقما هامشيا في المعادلة الداخلية، بل صار عرضة للتنمر ولحملات تشويه منظمة تقودها أطراف يمينية تزداد تطرفا وشراسة.
آخر ما حصل هو ما تعرض له رئيس حركة «ميرتس» اليسارية عضو الكنيست نيتسان هوروفيتس من نقد لاذع وهجوم عنيف لا لشيء سوى أنه قال إنه يشعر بالألم من قرار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي فتح تحقيق لتقصّي شبهات بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي المحتلة، معتبرا في الوقت نفسه أن هناك «أسباباً تبدو وجيهة تقف وراء هذا القرار».
هوروفيتس أوضح كذلك في مقابلة أجرتها معه قناة التلفزة الإسرائيلية 13 مساء السبت الماضي أن «الناس يقولون لنا أنتم تريدون أن تمثل إسرائيل أمام لاهاي، أنا لا أريد أن تمثل إسرائيل أمام لاهاي، لكن إسرائيل تتحمل المسؤولية أيضاً. أقول بحزن شديد إنه كان هناك أسباب لهذا القرار. لا أريد أن تواجه إسرائيل هذه المواقف، لكن عليها أن تسأل نفسها عمّا يجب فعله لمنع ذلك» حاثا الحكومة على التعاون مع محكمة لاهاي وهو ما لم يبد له أي مؤشر إلى حد الآن.
الرجل قال أيضا، في إشارة واضحة لرئيس الوزراء نتنياهو إن «الحل بالنسبة إلينا ليس أن نقول إن لاهاي معادية للسامية، بل في الدفع قدماً بالمفاوضات مع الفلسطينيين لإيجاد حل، وعندها لن يكون هناك سبب للاهاي».
لم يكد الرجل ينتهي من التعبير عن رأيه هذا حتى صدر بيان عن حزب الليكود يتهم هوروفيتس بأنه «يتخلى عن جنود الجيش الإسرائيلي الذين يحرسونه ويحرسون سكان إسرائيل» فيما وصف حزب «أمل الجديد» بزعامة جدعون ساعر تصريحاته بأنها «بائسة» وطالبه بالاعتذار عنها. أما عضو الكنيست أييلت شاكيد من حزب «يمينا» فوصفت هوروفيتس بأنه «عار على الكنيست» كما انتقد وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس حزب «أزرق أبيض» بني غانتس تصريحات هوروفيتس معتبرا إياها «مستفزة وغير مقبولة» فيما طالب أحد الأحزاب اليمينية المتطرفة المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية بفتح تحقيق ضد هوروفيتس بتهمة «الخيانة».
لم يعد الفلسطيني قادرا فيه على التمييز بين أبيض أو أسود بل بين درجات متعددة من السواد، عما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية والعربية من تراجع ووهن
ما يهمنا من كل هذا هو أنه لم يعد هناك نهائيا تقريبا في الطبقة السياسية الإسرائيلية من يمين ويسار، وأن كل المشهد السياسي هناك لم يعد سوى تنافس بين اليمين واليمين الأكثر تطرفا، وبتلوينات مختلفة، لا تتميّز عن بعضها إلا بمزيد من المغالاة والتعصب.
انتعش هذا اليمين بلا شك من هيمنة شخصية نتنياهو على المشهد لفترة قياسية كرئيس للوزراء مع ما عناه ذلك من أن المتطرف المستهتر هو من يحكم وليس العقلاني أو الباحث عن حلول وتسويات، ثم جاءت أعوام ترامب الأربعة العجاف لتزيد هذا المشهد بؤسا بمحاولة فرض كل ما هو مخالف للقانون الدولي دون مواربة أو خجل. لم يعد المجتمع الإسرائيلي قادرا على سماع حتى من يبحث عن مصلحة إسرائيل العليا بوسائل أخرى غير فرض واقع الاحتلال وكسر إرادة الفلسطينيين وإخضاعهم للاحتلال الدائم دون أفق. ووسط ضجيج المزايدات الانتخابية، ومن يكون متطرفا أكثر من الآخر، لم يعد واردا طبعا سماع أصوات مختلفة، بل لو قُدر لهؤلاء أن يطلقوا على شخصيات تاريخية مثل رابين أو بيريز صفة العمالة والخيانة لما ترددوا.
طبعا، لا يمكن فصل واقعٍ، لم يعد الفلسطيني قادرا فيه على التمييز بين أبيض أو أسود بل بين درجات متعددة من السواد، عما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية والعربية من تراجع ووهن، وبالتالي لم يعد هناك من عنصر ضاغط يدفع الإسرائيلي إلى أية مراجعة أو إبداء أي آراء تصدم رأيا عاما حاضنا لكل أشكال التطرف. دليل ذلك أن شعبية نتنياهو لم تتراجع رغم كل ما لحق به من تهم فساد ورشوة لأن الإسرائيلي بات معجبا بكل من هو متغطرس وقاس حتى وإن كان فاسدا ومرتشيا. الأولوية صارت لمثل هذه المواصفات ولو على حساب دولة القانون والنزاهة والحوكمة الرشيدة التي لطاما اعتبرها الإسرائيليون أغلى ما يميزهم في منطقة تعجّ بكل ما هو نقيض ذلك.
لن تخرج نتائج الانتخابات الإسرائيلية العامة هذا الشهر عن هذا الإطار ولكن يبقى هناك بعض الأمل في الفترة المقبلة، ولو ضئيلا، في أن غياب الرعاية الأمريكية الكاملة، العمياء وغير المشروطة، والغبية أحيانا، من شأنه أن يحد من غلواء اليمين الإسرائيلي لكنه من المستبعد تماما أن يعيد الحياة إلى اليسار الإسرائيلي الذي يبدو أنه صفحةٌ وطـُـويت، كما طوي اليسار الفلسطيني والعربي عموما.
المصيبة الآن ليس في أن الإسرائيليين يزدادون تطرفا ونحن الفلسطينيين والعرب كذلك، بل الطامة الكبرى هي أنهم يزدادون تطرفا فيما نزداد نحن رخاوة وغباء… وبلا مقابل.
القدس العربي