الزهرة انفو -
من أسوأ الخصال التي زادت في الحياة العامة في الآونة الأخيرة ظاهرة "الهروب للأمام"، بمعنى أنه حين تواجه مشكلة ما أو تدخل في أزمة تتفادى مواجهتها أو تتخاذل عن مواجهتها بافتعال معركة سهلة لا طائل من ورائها سوى أن تغطي على المشكلة في محاولة بائسة للنجاة.
ليس السلوك من هذا النوع بجديد، لكنه في الماضي كان قليلا في الحياة العامة، أما في أيامنا هذه فقد أصبح سمة شائعة في السياسة والأعمال وغيرها من نشاطات البشر.
يستسهل المرء في موقع قيادي أو غير قيادي أن يلقي باللوم في أخطائه على أي شيء أو أي شخص غير أنه أخطأ التقدير أو أهمل في مهامه، حتى لو بغير قصد.
وأحيانا كثيرة يأتي لوم الغير بنتائج عكسية، فبدلا من أن يعفي صاحبه من المسؤولية يزيد من المشاكل ويعقدها.
يحدث ذلك باختلاق معارك وهمية من باب الاستسهال أيضا، وبدلا من التركيز على الأسباب الحقيقية للمشاكل ينصرف الاهتمام إلى عوامل وأسباب أخرى وبالتالي تظل المشكلة وتتكرر الأخطاء وتزيد التبعات سلبية.
فمثل هذه الطريقة من الهروب للأمام، أي عدم الثبات والتصدي للمشاكل بواقعية وأصالة، لا تتجاوز العيوب والأخطاء بل إن القفز عليها يزيدها عمقا وضررا على المدى الطويل.
وكما يقول المثل عن العيوب والمشاكل فإن "كنسها تحت السجادة" لا يعني اختفائها وإن أبعدتها عن النظر.
فبعد فترة ستزيد رائحة العطن وتزكم الأنوف، حتى السجادة من كثرة الكنس تحتها سترتفع وتبدو غير مستوية!!
مع أن ذلك أصبح يحدث الآن في كل المجالات، لكنه يظل أكثر وضوحا في مجال العمل العام مثل السياسة والنشاطات التي تتركز عليها الأضواء.
وكما ساهمت ثورة الاتصالات واتساع استخدام الإنترنت كوسيلة تواصل في ترويج المعارك السهلة، ساهمت أيضا في كشف الحقائق للجماهير العادية في كثير من الأحيان.
وأصبحت قادرة على تبين ما هو أصيل مما هو تلفيق، هذا طبعا إذا أرادت تلك الجماهير أن تكون واعية ولا تميل للاستسهال والتسطيح هي الأخرى.
أتصور أن أذكى من استخدم طريقة الهروب للأمام بالدخل في معارك سهلة للقفز على مشاكله هو رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون.
فعلى مدى سنوات حكمه القصيرة، كلما واجه أزمة حقيقية في بلاده أو تدهورا للوضع نتيجة سياساته وبدء الشكوى والانتقاد لحكومته، سارع بالهروب للأمام عبر معارك ليست فقط سهلة ولكنها كفيلة بحرف الانتباه عن المشاكل الداخلية الحقيقية وربما زيادة شعبيته بين العوام الذين يدرك سطحيتهم وميلهم للاستسهال.
في البداية كان الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) لوحة تسديد السهام الرئيسية له كلما أخفقت إحدى سياساته الداخلية أو ارتكبت حكومته أخطاء.
على الفور يفتعل معركة مع الأوروبيين ويتشدد في التفاوض معهم، فيصير بطلا في عيون نصف البريطانيين الذين صوتوا للخروج من أوروبا، ويعلو صوت هؤلاء في الإعلام ومواقع التواصل ليغطي على أي صوت عقلاني يصف الأمر بأنه هروب للأمام يضر أكثر مما يفيد.
ثم جاءت حرب أوكرانيا والوقوف في وجه روسيا، وتزامنت مع كثرة الفضائح والأخطاء الفجة له ولحكومته، فأصبح كلما انفجرت قضية في وجهه في بريطانيا يسافر إلى كييف ويلتقط الصور مع رئيسها وسط الحرب هناك.
بالطبع لا يقتصر الأمر على جونسون، بل الأمثلة كثيرة مع اختلاف الشكل والظروف، وفي عالمنا العربي، نميل أكثر إلى لوم "الآخر" كطريقة هروب للأمام.
يتنوع هذا "الآخر" من عوامل قهرية طبيعية إلى ظروف عالمية حتى العودة إلى أسباب تاريخية مثل "هذا نتاج ما فعله بنا الاستعمار"!!
يبدأ الأمر من تبرير موظف يتأخر عن عمله بأنه الجو (مطر، شبورة .. الخ) إلى قائد أعمال يلقي اللوم على "ظروف السوق العالمية" وحتى رموز السياسة الذين لديهم مخزون تبريري من ذلك الآخر، أطراف خارجية، مغرضون حاقدون في الداخل، أعداء النجاح والإنجاز .. الخ بينما الناس تشعر بالفعل بعكس ذلك تماما.
خطورة المعارك السهلة ليس فقط أنها تسهم في الهروب إلى الأمام الذي يترك المشاكل والأخطاء بلا حلل أو إصلاح ولكن أيضا إنها تزيد من الشقاق وتضعف من عزيمة وقدرة الجماعة المعنية على تحسين أوضاعها وإحراز أي تقدم.
فإذا كان اللوم على عوامل خارج نطاق اليد، كالطبيعة أو الظروف الخارجية، فإن ذلك يدفع إلى الاستكانة وتراجع بذل الجهد للتغيير نحو الأفضل، ففي النهاية "ما باليد حيلة".
وتلك كارثة أخرى، إذ إن الحكمة من وجودنا كبشر على الأرض هو إعمارها بالعمل الجاد والأصيل والدائم لتغيير تلك الظروف المعاكسة التي نظنها "ليست بيدنا".
أما لوم الآخرين بغير وجه حق فقط لتبرير الفشل فهو أيضا خطر على وحدة الصف وزيادة القدرات بتوظيف كل ما هو متاح، كما أنه يتعارض تماما مع التسامح والتضامن لمواجهة التحديات.
الكاتب الصحفي أحمد مصطفى