بعد إتمام غزو العراق وتحديدا في السادس من أيار ٢٠٠٣م عينت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش المدعو بول بريمر كحاكم للعراق، وسنّ هذا الأخير قانونا يسمى "قانون اجتثاث البعث"، والبعث فكرة نظّر لها كبار المفكرين العرب، من ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح البيطار وأترابهم من الرفاق، كأيديولوجية قومية عربية وحدوية، ذات مبادئ راسخة، إن شئت قلت إنها وطنية وإن شئت قلت أممية، هذا يتوقف على تمييزك بين الوطن والأمة، أيهما شامل وأيهما مشمول؟ أم هم متوازيان؟، وهذه الأخيرة مسلّمة في أدبيات الرفاق، لكن كيف تتوازيان، هل الوطن كبير ليستوعب الأمة، أم الأمة صغيرة لتناسب الوطن؟.
الأمة هي إحساس بالانتماء لثقافة كالأمة الصينية، أو لغة كالشعوب اللاتينية و الفرنكوفونية، أو حضارة كالأمة الإغريقية، أو تاريخ كالأمة السلافية بجنوبها إلى شرقها، أو دين كالأمة الإسلامية، أو كل ذلك كالأمة العربية، وقد تتعدى الأمة حدود الوطن - إذا كان أضيق، والحقيقة أن الواقع العربي الآن يشهد عدم تجانس بين المفهومين (الأمة والوطن) بفعل تجزئة الوطن الكبير إلى أوطان صغيرة أو أقطار، فأن تؤمن بالواقع لا يعني أن تستسلم له، بل مواجهته تتطلب الإيمان بحقيقته الآنية، هذه رؤية البعثيين فيما يخص الأمة، ويمكن اختزال نضالهم في مواءمة الأمة والوطن وجعل الأخير إطارا محيطا موحِّدا للأمة، ويستخدمون لهذا منهجا إصلاحيا يمسى الانقلابية، ولكن هذه الانقلابية لا تعني بالضرورة الانقلاب العسكري كما فهمها الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع، بل هي عملية إصلاح طفروية: أي أنها تسريع الوقت في عملية الإصلاح التراكمي، وهنا تتساوى النخبة العربية والعامة في النضال؛ لأن مسؤولية الانقلاب تقع على الجميع بالتساوي، فهي انقلاب على النفس ومغالبتها قبل كل شيء، هذه فلسفة الانقلاب كمظهر للنضال الاجتماعي - بدرجة أولى - ضد الفتور والجمود الذي أصاب الأمة منذ سقوط بغداد على يد التتار منتصف القرن الثالث عشر وقد تجدد بصقوطها على يد الأمريكي بداية الواحد والعشرين. بالتالي فإن البعث العربي قد ساهم في نقطتين أول ماظهر، الأولى غائيةٌ بلورت الأهداف العربية المتوخاة من النضال، والثانية هي وسيلة تحقيق هذه الغايات، وبطبيعة الحال فإن البعث لايقول بتبرير الغاية للوسيلة، بل إن الغاية تعكس الوسيلة مباشرة فاكتشاف الوسيلة حتمي بعد تحديد الغاية.
في عام ٢٠٠٣م كتمهيد لاجتثاث البعث كان لابد من مبرر، هنا ارتأت إدارة بوش الإبن أن تصنيف البعث كحركة إرهابية بات لامناص منه، وتم في ذلك بالتنسيق مع محور طهران-تل أبيب، كغطاء قانوني للاجتثاث هذا، وتطلب الأمر التعاون من أكراد العراق بشهادة مسعود البارازاني.
وهنا أود أن أشير إلى أن اجتياح العراق برمته وحل حزب البعث جاء نتيجة مباشرة لظهور العراق كقوة إقليمية تعلن العداء على إسرائيل، وهو ما دفع اللوبي الإسرائيلي للضغط من أجل حل هذا الحزب الذي يقوض مساعي موكِّله في التوسع شرقي المتوسط، ويدافع بقوة عن حق فلسطين في استرداد أراضيها المحتلة، ولعل في جولة العدوان هذه الأيام التي تقودها إسرائيل على قطاع غرة والمسجد الأقصى المتزامنة مع ذكرى تأسيس الحزب في ٧ نيسان ١٩٤٧م ، مناسَبة للترحم على شهداء المقاومة وفي مقدمتهم الرئيس صدام حسين، لما قدموه من تضحيات، ولو أن الاجتياح ماتم بدعم العرب لربما كان وضع إسرائيل الآن مختلف.
نعود لقانون بريمر..
قانون اجتثاث البعث يقتضي تجريم الانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي، ليكون ذريعة لمطاردة قادته وفصل الموظفين المنتمين له بشكل قسري، واغتيال المفكرين والكفاءات العلمية العراقية ذات التوجه البعثي، ومَطالبُ كولن باول لقيادة الحزب في سورية بعد الغزو تؤكد أنه لم يأت البتة لتكريس الديمقراطية ولا إقامة حكم رشيد في العراق، بل إن مجزرة الفلوجة على يد قوات "البلاك ووتر" وسِجن أبو غريب تمثل الانعكاس الحقيقي الملموس لطبيعة العدوان، فالبعث فكرة قبل كل شيء، والفكرة في منطق المناظرة تُجابَه بالفكرة والحجة بالحجة، ومن يريد اجتثاث فكرة بالسلاح كمن يحاول إدخال بطاقة شحن من شبكة اتصال معينة في شريحة غيرها، وذلك ضرب من المستحيل، بل إن التفسير الوحيد لمحاولة اجتثاث البعث بالقوة المادية: هو أنها محاولة ماكرة لإسقاط نظام يعوق محاولة إسرائيل والولايات المتحدة وحتى إيران للتوغل في المنطقة وجعلها ضمن إطارها الحيوي، فما كانت إسرائيل ليستقر لها جفن في الجولان ولا في فلسطين مع وجود قوة كعراق صدام في المنطقة، وماكان المشروع الاستراتيجي الإيراني الطائفي ليرى النور، فحصار البعث في العراق أدى إلى نتائج عكسية على العراق والمنطقة ككل، وأخذت إيران تتمدد بالحوثي في اليمن وحزب الله في لبنان وسورية وبالإطار التنسيقي في العراق نفسه، وحتى جزر الإمارات التي يحكم عليها الملالي قبضته بقوة، وقد عززوا الطائفية في هذه البلدان و ألَّبوا الشيعة على السنة، فانقسمت المنطقة بين شيعة يستمدون قوتهم من إيران، وسنة يوالون السعودية كمعسكرين مختلفي الأجندات، ونتمنى ألا تكون مصالحتهم في بيكين على حساب اليمن.
والآن بعد الأخذ والرد بين وكلاء إيران في العراق حول حل اللجنة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، فإني أحذرهم من ذلك على مصالح إيران، ولو ظنوا أنهم أنهوا وجود البعث في العراق فهم واهمون، فالموت يعني خروج الروح من الجسد وهذا يمكن برمي الرصاص والتسميم والشنق كما فعلوا مع صدام وغيره، لكن الأفكار لاتموت بهذه الوسائل لأنها تعززها وتغذي العواطف والأحاسيس بل الأفكار تموت بالحوار والنقاش، وليس عند الأمريكي حجة يقبلها المنطق والعقل السليم لإنهاء البعث.
مات صدام لكن البعث فكرة والفكرة لا تموت.
محمدسالم جدو