يُكرر الرئيس السابق في كل جلسات المحكمة أن محاكمته سياسية، وأنه يتعرض لتصفية حسابات من طرف خصومه، ومن يسمع تكراره لذلك قد يعتقد أنه كان في فترة حكمه بعيدا ـ كل البعد ـ عن المحاكمات السياسية وتصفية الحسابات مع خصومه السياسيين.
ربما يكون قد فات الرئيس السابق أن المحاكمة التي يخضع لها حاليا، تعدُّ هي أول محاكمة لرئيس سابق في تاريخ البلد ـ بل وفي المنطقة كلها ـ تأخذ مسارا قانونيا وقضائيا سليما لا لبس فيه.
في العهود السابقة كان عندما يصل رئيس جديد إلى الحكم، يقوم ـ وبشكل شبه ميكانيكي ـ بإلقاء سلفه في السجن دون محاكمة، والرئيس السابق الذي يتحدث اليوم عن تسييس القضاء فعل نفس الشيء مع سلفه، فألقى بالرئيس الراحل سيدي ولد الشيخ عبد الله في السجن دون محاكمة، ولولا ضغط الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية والضغط الدولي لتركه في السجن سنين عددا.
ألم يكن بإمكان الرئيس غزواني أن يتعامل مع الرئيس السابق كما تعامل الرئيس السابق نفسه مع سلفه، خاصة وأن هناك أخبارا شبه متواترة تقول بأن الرئيس السابق خطط ل “شيء ما ” على هامش الاحتفالات المخلدة لذكرى الاستقلال في أكجوجت في العام 2019، وهو ما يزيد من مبررات إدخاله في السجن دون الحاجة لمحاكمته.
كان بإمكان الرئيس غزواني أن يفعل ذلك، ولن تنطح شاةٌ شاةً، فنحن في موريتانيا تعودنا من كل رئيس جديد أن يلقي بسلفه في السجن ودون الحاجة لمحاكمته، حتى ولو كانت محاكمة صورية.
وإنعاشا للذاكرة فإليكم بعض الصور من تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين التي كان يقوم بها الرئيس السابق في فترة العشرية.
ألقى الرئيس السابق بعد انتخابه في العام 2009 ثلاثة من كبار رجال الأعمال في البلد في السجن بتهم تتعلق بالفساد ونهب المليارات من البنك المركزي، وكان ذلك بُعيد انتخابات رئاسية دعم فيها رجال الأعمال الثلاثة منافسا للرئيس السابق في تلك الانتخابات. أحد رجال الأعمال الثلاثة أعلن توبته السياسية على الملأ، ونظم مأدبة عشاء باذخ في “تنويش” على شرف رئيس وقادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، فتم توشيحه بعد ذلك من طرف الرئيس السابق بوسام فارس من نظام الاستحقاق الوطني في العام 2015، ومع أنه وإلى وقت قريب كان من رموز الفساد حسب الرئيس السابق، وعلى العكس من ذلك فإن هناك رجل أعمال آخر من كبار رجال الأعمال في البلد يتهمه حاليا الرئيس السابق بأنه من الذين يقفون وراء تصفية الحسابات ضده، رجل الأعمال هذا تم توشيحه من طرف الرئيس السابق بأعلى وسام في نظام الاستحقاق الوطني في العام 2009، والتوشيح كان مكافأة له على جهوده الكبيرة في تشريع الانقلاب وفي الحملة الانتخابية في العام 2009 التي أنفق فيها أموالا طائلة. والظاهر أن الخلاف اللاحق بينهما كان سببه أن رجل الأعمال دعم الرئيس السابق من أجل أن يحظى بصفقات كبيرة بعد فوزه في الانتخابات، ولكن فاته أن الرئيس السابق كان يُريد أن يستبقي الصفقات الكبيرة لنفسه مع مزاولة مهامه كرئيس دولة، وقد نتج عن ذلك الخلاف أن “رجل الأعمال الرئيس” اتهم رجل الأعمال الثاني بالتهرب الضريبي والتحايل المالي.
فأي تسييس للقضاء ولأوسمة الدولة أخطر من أن تتهم رجل أعمال بالفساد وتسجنه لأنه دعم مرشحا منافسا لك، ثم توشحه بعد ذلك عند ما يتوب سياسيا وينخرط في دعمك؟
وأي تسييس للقضاء وأوسمة الدولة أخطر من أن توشح رجل أعمال بأعلى وسام وطني لأنه شرع لك انقلابا ودعمك بسخاء في حملة انتخابية ، ثم تتهمه بعد ذلك بأبشع التهم لأسباب تتعلق على الأرجح بتنافسه المالي معك؟
لا يتوقف الجمع بين الفساد والتوشيح بأعلى الأوسمة في العشرية عند هذه القصص الصادمة، بل هناك قصص أخرى صادمة أكثر، منها أن سيدة أعمال يابانية جاءت إلى نواذيبو ضمن تكتل لبعض المقاولات اليابانية الصغيرة للاستثمار في تصدير السمك إلى اليابان، وقد اتفقت مع رجل أعمال موريتاني على توفير كمية محددة من نوع من السمك محدد، ودفعت له مقابل تلك الكمية الثمن المطلوب، ولكنه للأسف تحايل عليها وأخذ المال دون أن يوفر لها الكمية المطلوبة.
فما كان من سيدة الأعمال اليابانية إلا أن اتصلت بسفير بلدها في نواكشوط، وتمكنت بعد ذلك هي والسفير من أن يلتقيا بالرئيس السابق في القصر الرئاسي، فشكت له من رجل الأعمال الذي تحايل عليها، فعبر لها الرئيس السابق عن أسفه لوجود هذا النوع من رجال الأعمال المفسدين في البلد، وأكد لها أنها ستستعيد أموالها.
بدأت سيدة الأعمال في الإجراءات القانونية، ولكنها بعد أشهر فوجئت بالرئيس السابق يوشح رجل الأعمال الذي شكت منه بوسام في يوم الاستقلال، فما كان منها إلا أن قررت أن تعود إلى بلدها مصدومة من رئيس دولة يوشح في ذكرى الاستقلال من وصفه في وقت قريب بالمفسد.
وتبقى القصة الأغرب في تسييس القضاء والاستهزاء به هي تعهد الرئيس السابق بإطلاق سراح وزير أول سابق اتهمه بالفساد إن هو أكل حفنة من “الأرز الفاسد”!
إن ما يجري حاليا من ادعاء بتسييس المحاكمة وتصفية الحسابات ما هو إلا أسلوب جديد ضمن استراتيجية المغالطات التي يتبعها الرئيس السابق وفريق دفاعه، ولقد بدأت هذه الاستراتيجية من قبل المحاكمة حيث كان الرئيس السابق يصف ما تقوم به لجنة التحقيق البرلمانية ب”أهدادت الحلمة أعل أشراطة” وكان يتوعدها إن فتحت الملف، وكان يهدد الجميع “بقطع الصمت”، فيسارع رئيس فريق دفاعه ولد شدو للقول بأن ما قبل صمت ولد عبد العزيز لن يكون مثل ما بعده، فولد عبد العزيز إن قطع صمته ـ حسب ولد شدو ـ ستتغير أمور كثيرة وسيهتز الكثير في موريتانيا. كان هذا الأسلوب من المغالطات من أجل التخويف من فتح ملف العشرية قضائيا، ولما فُتِح الملف وبدأت المحاكمة ودون أن يهتز أي شيء في موريتانيا تم اللجوء إلى أسلوب آخر من المغالطات يهدف هذه المرة إلى إبطاء مسار المحاكمة قدر المستطاع من خلال التقدم بالطعون إلى المجلس الدستوري والدفوع الشكلية والذهاب إلى الخارج للعلاج، و..و …إلخ
وبالفعل، فقد نجح الرئيس السابق وفريق دفاعه في إطالة مدة المحاكمة التي بدأ مسارها قبل 4 سنوات من الآن، فبإطالتها ملَّ الناس من متابعتها، وانشغلت الحكومة بها عن قضايا ملحة أخرى تعهد بها الرئيس في برنامجه الانتخابي، وتسبب كل ذلك في تململ الرأي العام.
لقد آن الأوان لتسريع وتيرة المحاكمة، ولغلق ملفها نهائيا، وليست هذه دعوة لتجاوز القانون، وإنما هي دعوة لعدم الوقوع في الفخ الذي نصبه الرئيس السابق وفريق دفاعه، وهو الفخ المتمثل في إطالة مسار المحاكمة حتى يملها الناس، وتربك العمل الحكومي، فتتحول من ملف غير مسبوق في محاربة الفساد إلى ملف غير مسبوق في إصابة الرأي العام بالضجر والملل، والعمل الحكومي بالإرباك والشلل.
يتواصل..
سيدي ولد گبه
ناشط سياسي مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية