
إن منبع الفساد في هذا البلد هو فساد قضائه وترهل منظومته العدلية؛ فلو كان المسؤول أو المواطن العادي يوقن في قرارة نفسه بوجود قضاء مهني مستقل وعادل يقف خلفه، لما تجرأ على خرق القانون، ولتدفقت الاستثمارات، ولعمّ الرخاء. غير أن فساد المنظومة القضائية لدينا هو أصل الخراب ومصدر الفوضى الإدارية والأمنية والاجتماعية، وهو السبب المباشر لما نعيشه من ظلم وجور وغُبن، بل هو ما جعل الدولة بأسرها تتأرجح على حافة الانهيار.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد فساد عابر أو سوء تدبير إداري، بل انهيار أخلاقي وقيمي يبدأ من قضاء فاسد مترهل ومنظومة عدلية شوهاء فقدت رسالتها ومصداقيتها.
إن سلطة قضائية تخضع لإملاءات السياسيين وتخاف نفوذ الأقوياء وتساوم الفاسدين، هي سلطة شريكة في الجريمة لا حامية للعدالة. وكل قانون يُسن في ظل هذا الواقع ليس سوى ورق بلا روح، وديكور يُستعمل لتغطية الفوضى، بينما الظلم يتوحش، والاستثمارات ورؤوس الأموال تفرّ، والدولة تتآكل من الداخل.
إن سوء الحكامة لم يعد مجرد خلل إداري بل أصبح حكما بالفوضى، وحكما بالإعدام على مستقبل الوطن.
لقد صار فساد القضاء الخطر الأكبر على بقاء الدولة، والسبب المباشر لاهتزاز الأمن، ولحالة التسيب الإداري والأمني التي نعيشها يوميا. السلطات تتحمل المسؤولية كاملة عن هذا الوضع؛ لأنها تركت القضاء بلا رقابة حقيقية، وبلا تكوين جاد، فصار مرتعا للابتزاز والمحسوبية والولاءات الضيّقة. وإن صمت المجتمع والنخب عن هذا الواقع هو خيانة للوطن وتواطؤٌ مع الفساد.
تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي تهاونت في إصلاح القضاء دفعت ثمنا باهظا من استقرارها ونموها، وأن القضاء هو معيار الحياة أو الموت بالنسبة لأي دولة. وفي موريتانيا، لن يكتب لأي إصلاح النجاح ما لم يعاد تأسيس السلطة القضائية على قواعد مهنية صلبة ودعائم أخلاقية راسخة، ويُستأصل من جسد العدالة داء القبيلة والجهة والطبقة وتسلط السياسة وسطوة المال، حتى تعود العدالة ميزانا لا يميل إلا للحق. يجب فرض تكوين دوري صارم على القضاة، ومراجعة سلوكهم وأحكامهم بشكل شفاف، واكتتاب جيل جديد من القضاة يتم انتقاؤهم بعناية وتكوينهم وفق معايير مهنية صارمة، حتى يُعاد بناء الثقة المهدورة ويُعاد للقضاء هيبته.
إن الوقت لم يعد يسمح بالمساومات أو بالحلول التجميلية. إننا أمام لحظة مفصلية؛ إما أن يُصلح القضاء جذريا الآن، وإما أن نواصل الانحدار حتى السقوط في هاوية الدولة الفاشلة. إصلاح القضاء هنا ليس ترفا ولا مطلبا نخبويا، بل هو صرخة نجاة أخيرة لوطن يترنح على حافة منحدر سحيق.
عالي محمد ولد أبنو / رئيس اللجنة الاعلامية باللجنة الوطنية لحقوق الانسان