كثر اللغط، وكثرت التعاليق، وأريق من الحبر الكثير، علي صفحات جرائد لا زالت تصرّ علي الصدور بشكلها الورقي، وقيل الكثير، في خطب منبرية وتسجيلية، وكتب الكثير من التدوينات، ونشر الكثير من المقالات، احتل حيزا كبيرا من ‘‘الميكا-بايتات‘‘، حول ردود السيد الرئيس خلال مؤتمره الصحفي الأخير، الذي يأتي، في تقليد أصبح شبه روتيني ومعتاد، بعد كل انتخابات تنظّم في البلد. إلا أنّ الرسائل التي حملتها تلك الردود لم توضّح بالشكل الكافي، ولم تعط من التبيان ما يشفي الغليل، حين لم تحدّد جهاتها بشكل صحيح، ولم تستجل معانيها، ولم تبحث مضامينها، ولم تستكنه حيثيّاتها ومقتضياتها، بما يروي عطش من يعرف المتكلّم، و ما يملك من حس وطني رفيع، وما أبان عنه من حنكة سياسية، وعمق في النظر، قامت البراهين علي صدقه، وتضافرت الأدلة علي عمقه، في تحليله ونظرته. وبرهنت الوقائع علي الأرض علي نجاعة سياسته، وجدارة خياراته، وسلامة نهجه. ولأحدنا أن يحبس الأنفاس، بعد هذه العبارات الأخيرة، لما يعرف في هذا البلد، وغيره، وللأسف الشديد، من بلداننا العربية والإسلامية، من تملق المتملّقين، وانتهاز ‘‘الوصوليّين‘‘. لكن الحق يبقي حقا، ولا يخشي من التباسه علي ذوي الحجا والبصيرة، ولا ينطلي الباطل علي ذوي النظر الثاقب، ومحبّي الحقيقة، الباحثين عنها بصدق، المتمسكين بقوله تعالي : (ولا يجرمنّكم شنآن قوم علي أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوي). فليس كل من شكر الحاكم بحقّ يعد متملقا، وليس كل من عارض الحاكم بباطل، يسمّي معارضا واعيا، وبطلا شجاعا، ونحريرا لوْذعيا! تبقي الحقائق هي الحقائق، يؤيّدها الواقع، وينهض بها الدليل الساطع..
لذلك كان لا بدّ من الاسهام في استجْلاء مضامين تلك الردود، ولمن وجّهت بالأساس، وما تنطوي عليه من حرص علي حفظ وصيانة مقدسات هذا البلد وثوابته. خصوصا أننا علي وشك انعقاد أول جلسة لبرلمان موريتاني بغرفة واحدة، يعلّق عليه المواطنون آمالا كبيرة في سنّ قوانين مهمة للبلد، والمصادقة علي كل الاتفاقيات التي تخدم مصالحه، والتحفّظ علي كل ما يتنافى مع ثوابته ومعتقده، والاسهام الفعلي في تقدم بلادنا، والنهوض بها علي جميع الصّعد، وما ينتظره المواطنون من كل برلماني، في إعطاء صورة جميلة عن البلد، أصيلة ووطنية بامتياز، وأول ذلك وآكده، المران والتعود، وحمل النفس علي التحدث بالفصحي، لغة هذا البلد ودثاره، وميْسمه وشعاره، ومصْدر مجده وفخره، ووعاء وحيه المقدس، وميزته الأنفس؛ كما ينتظر من كل نائب في البرلمان الجديد، الدفاع عن المصالح العليا للوطن، وتقديمها علي المصالح الضيقة، والولاء المطلق للدولة قبل الجهة، والقبيلة، والعرق ، واللون، والنفر والعشيرة.
هو إذا برلمان تعلق عليه آمال كبيرة، تأتي قبله تصريحات رئاسية في غاية الأهمية والعمق والتركيز.
أول تلك الرسائل كانت موجهة إلي الخصوم السياسيين، ولا أقول المعارضة الديموقراطية، التي نفتقدها في بلادنا للأسف الشديد. ولقد كانت رسالة واضحة للإخوة في ‘‘تواصل‘‘ بدعوتهم إلي عدم خلط الأوراق في الممارسة السياسية، وبالأخص الورقة الدينية، التي يجب التنبّه إلي خطورة استعمالها عندما توظّف من طرف المعارضة السياسية في بلد إسلامي، بدوي ومتخلف، كبلادنا. وأظن المسألة مقرّرة، وأصبحت متجاوزة في أدبيات ما يسمي بـ ‘‘التيارات‘‘ والأحزاب السياسية ‘‘الاسلامية‘‘، كالنهضة في تونس، وقبلهم الاسلاميون في تركيا، الذين أرغمتهم الممارسة السياسية، مع علمانيين راديكاليين، إلي الاعتراف بخطورة الخلط في السياسة، بين ما هو ديني بحت، وما هو مدني بحت. أما بخصوص بلادنا، فالخطأ الفادح والأكبر من طرف الإخوان المسلمين في موريتانيا تمثل في تحويل أفكار، هي في الأساس دعوية، إصلاحية، اجتماعية، أهلية، ‘‘مصرية‘‘ المنشأ والمصادر والموطن، ولذلك ما له من أثر؛ تحويل تلك الأفكار ومحاولة تطبيقها، إلي حزب سياسي، يمارس السياسة ‘‘السياسوية‘‘ في أغلب الأحيان، أي لا يتورع في مقارعته ونزاله مع خصومه السياسيين، عن استخدام أساليب الخصم، الذي يصفه، مبدئيا، بأنه ‘‘غير إسلامي‘‘. وهنا مكْمن الداء والخطر، و محلّ الخطل. ففي بلد مثل موريتانيا، لا أحد يطرح فيه ‘‘ العلمانية‘‘ بجدّ، كخيار يصغي إليه؛ لا رئيسه، الذي قال يوما، في شجاعة واستقلالية وسيادية، عزّ نظيرها في الوطن العربي والإسلامي : (إن موريتانيا ليست دولة علمانية!)؛ ولا مواطنوه، الذين يدينون دين الحق، تغلغل فيهم الإسلام منذ القدم، وتشرّبوا تعاليمه، حتي صار غناءهم في طربهم الشعبي المفضل، مدح سيّد الكونين والثقلين، ويترنّمون بالشهادتين؛ لا تصافح نساؤهم باليد، علي الملإ، ولا تلبس البنطلون، ولا تسير سافرة الرأس في الشارع، مهما بلغت إحداهن من نزع جلباب الحياء؛ مسلمون متزيّنون بالحياء، المبالغ فيه أحيانا، حتي تحوّل إلي ما يعرف عندنا بـ ‘‘السحْوة‘‘ ، يرحم كبيرهم صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، ينفرون من ‘‘القتل‘‘ ، ويخافونه، وتشمئز نفوسهم من كل مظاهر ‘‘العنف‘‘ و ‘‘التفجير‘‘ و ‘‘الانتحار‘‘؛ يستشيط الواحد منهم غيْظا إن أنت نعتّه بـ ‘‘تارك الصلاة‘‘ ، أو بـ ‘‘شارب خمر‘‘!؛ بلغ بهم ‘‘التحصين المحظري‘‘ الأصيل حدّ التمسك بـ ‘‘التصوف الاسلامي‘‘، في أوج اعتناقهم للشيوعية، أو علي الأصح ما عرف عندنا بتيّار ‘‘الكادحين‘‘... باختصار شديد، لم يكن الشعب الموريتاني، ولن يكون، في يوم من الأيام بحاجة إلي تيار ‘‘إسلاموي‘‘، وبالأخص تيار أبان عن هاجسه المفْرط، وهمّه ‘‘الطاغي‘‘ ، وانشغاله الأكبر والأوْحد، المتمثل في الوصول إلي الرئاسة، مهما كانت الوسائل، والمقدّمات، والعواقب. آن الأوان للإخوان المسلمين في موريتانيا، هم ومن سواهم ممّن يوصفون بـ ‘‘الاسلاميين‘‘ ، والذين لا يشيطنهم أحد- بالمناسبة-، أنْ يفهموا أنّ الدولة الموريتانية -شعبا و حكومة- ليسوا ‘‘علمانيين‘‘ ، أي لا يفصلون الدين عن الدولة، وليسوا كغيرهم من المجتمعات، التي ابتعدت عن الدين الإسلامي و انفصلت عنه بالكلية، كما وقع للأتراك مع كمال أتاتورك، أو تونس في عهد لحبيب بورقيبة، حتي غدوا بحاجة إلي تيارات فكرية وأحزاب سياسية، تتبني ‘‘خلفية‘‘ إسلامية، بغرض الإبقاء علي الاسلام في تلك البلدان، وإرجاع الناس إلي الدين الاسلامي وتعاليمه السمحة. الوضْع عندنا مخْتلف تماما، ولله الحمد والمنّة، فلم نعرف، ولا أحد فينا يرغب أن يعرف، الانسلاخ من الدين، حتي نكون بحاجة إلي ‘‘العودة‘‘ إليه. فالشعب الموريتاني كله مسلم، وقيادته، وكما صرحت بذلك علي الملإ، وبرهنت عليه بالقول و العمل، ليست علمانية ولا تعادي الدين والمتديّنين. وكل الطيف السياسي، علي اختلاف مشاربه، لم يتقدم في يوم من الأيام، ببرنامج سياسي، يضع في أولوياته، أو يتبني أو يسعي إلي فصل الدين عن الدولة، وحتي علي افتراض قيام فصيل منه بذلك، فلن يستجيب له أحد!
وهكذا لم يعدْ أحد اليوم يماري، بعد كل ما شهدته أقطار إسلامية عزيزة من خراب ودمار، لم يعد أحد ينكر خطورة طرح ‘‘الإسلام السياسي‘‘ ، علي الأقل بشكله الحالي، علي البلدان والشعوب الإسلامية ، والعربية منها علي وجه الخصوص. ولا يتّسع المقام هنا لبسط تفاصيل ما وقعت فيه التيارات الاسلامية، من الانزلاق في فخ ‘‘الفوضى الخلاّقة‘‘ ، إبّان ما سمّي يومها، تمويها وتضليلا، بـ ‘‘الربيع العربي‘‘ لم يسلمْ إخوتنا في ‘‘تواصل‘‘، وحتي آخرون غرّر بهم، من غوغائية شعاره العدمي ‘‘ارحل‘‘!
واليوم، وقد تبيّن ما تبيّن من خطورة النهج التدميري للأوطان، بالرّد علي العنف بالعنف، وتكشّف ما تكشّف من خطورة التنازع في الأدْيان بالتكفير المتبادل بين بني الملّة الواحدة في الأوطان، واتّضح ما اتّضح من وجوب احترام الدين وعدم الزج به في شأن كلّ ما يدخل في حيّز قوله صلي الله عليه وسلم : (أنتم أدري بشؤون دنياكم)؛ فقد آن الأوان ليحلّ الإخوان المسلمون حزبهم السياسي الذي أسّسوه في موريتانيا، وسمّوْه بـ ‘‘التجمع من أجل الاصلاح والتنمية‘‘ –تواصل. فلْيقوموا بحلّه بأنفسهم، وليتّقوا الله في وطنهم، موريتانيا. وليبقوا بعد ذلك، إن شاءوا، علي أنشطتهم الدعوية، والوعظية، والارشادية، والخيرية، والأهلية. فلا خوف علي الموريتانيين من تلك الجهة. والدعوة موجهة ، من طرف الجميع إلي كل من تسمّوْا بـ ‘‘الاسلاميين‘‘ في هذا البلد ، إلي الانخراط في أحزاب وطنية، مدنية، تتقاسم الثوابت الوطنية، ألا وهي : الدين الاسلامي، والوحدة الوطنية، والحوزة الترابية، واللغة العربية كلغة رسمية، مع الجميع؛ وتختلف، بعد ذلك، في طريقة تقديم برامجها السياسية إلي المواطن الموريتاني، تماما كما تختلف وبشكل طبيعي جدا، في أولوياتها، وأجنداتها، وأساليبها، ومنهجياتها، ولكن كلّ ذلك يجب أن يكون خدمة للوطن والمواطن، بعيدا عن المزايدات علي الثوابت.
هذا عن الرسالة الأولي ومن وجهت إليهم، من التواصليين، و ‘‘الإسلامويين‘‘.
أما عن الرسالة الثانية ومن وجهت إليه، فهي وإن كانت امتدادا لسابقتها، إلي حدّ ما، إلا أنها لا يمكن إلا أن تفرد بتوضيح، وبيان يجلي ما تحمله من دلالات عميقة، وذلك نظرا لما تكتسيه من أهمية، تستمدّها من عظم المكانة التي يحتلّها العلم والعلماء في المجتمعات المسْلمة. فهي رسالة موجهة لكل علماء البلد، عبر شخص واحد منهم، من أجلهم مكانة علمية، ومن أكثرهم شهرة، داخل البلد و خارجه، من المعلوم أنه الزعيم الروحي لحزب ‘‘تواصل‘‘. فلقد عرف الموريتانيون بتوقيرهم لعلمائهم، ومن المعلوم ما يحظى به العلماء من التبجيل والتعظيم في نفس كل مواطن موريتاني أصيل، رسخ في ثقافته، الضاربة في القدم، وعلي مرّ العصور، الانصياع الطوعي واللامشروط لأقوال العلماء، وحتي في أحلك ظروف هذا ‘‘ المنكب البرزخي‘‘ وتفشّي بعض مظاهر ‘‘السيبة‘‘ فيه، ظلّ الجميع يردّد، سواء في ذلك ‘‘العرب‘‘ أو ‘‘حملة السلاح‘‘ ، و ‘‘الزوايا‘‘ أو ‘‘الطلبة‘‘، وكافة الفئات الاجتماعية التقليدية الأخرى، ظل الجميع يردّد ، وبكل خضوع واقتناع : (من قتله الشرع فلا أحياه الله!) ؛ فلقد حظيت فتوي العلماء المحققين في هذا البلد بالحرمة والتقديس المطلق، علي مرّ العصور والأزمنة. فما إن تصدر فتوي عن أحد علماء شنقيط، حتي يبادر الجميع بتطبيقها، بدءا بالذين تصدر ضدهم، وانتهاء بمن تصدر لصالحهم. نذْكر كلّ هذا لنأتي بالدليل العملي، التاريخي، الثابت والمؤكد، علي أن مكانة العلماء ظلت عالية عند جميع الموريتانيين. لذا كان علي من اتصف بهذه الصفة، ويتأكّد الأمر في أيامنا هذه، أن يراعي تلك المكانة، محصّنا إياها بهدْيه، ودلّه وسمْته، ونهْجه، وسلوكه، قبل علْمه وعلومه!
فلا يليق بمن حباه الله في العلم الشرعي وافر المقسم، وأبعده عن كل تهمة ومثْلم، أن ينحاز للبعض، أو يتموْقع، أو ينطق بمأثم!
من كان من كبار علماء شنقيط الأصيلة، ومن جعله الله ميْسم عزّ وفخار علي جبين كل موريتاني، يسبق ذكره ذكر بلده في المحافل العلمية؛ من يخرص ذكْر اسمه فطاحل العلماء، لما عرف المعارضون له في الرأي العلمي من إحاطته بالدليل، وواسع باعه في المنقول والمعقول؛ من يعدّ ‘‘حافظا ‘‘ عند أهل الحديث، و ‘‘محققا‘‘ عند الفقهاء، و ‘‘إماما‘‘ عند المفسرين، و ‘‘ثقة‘‘ عند أصحاب السّير والناقلين، و ‘‘صدرا‘‘ و ‘‘إماما‘‘ و ‘‘حجة‘‘ في علم اللغة والبلاغة، والعروض، وعلم البيان والبديع، وأيام العرب و أنسابها، ووارث قيم حضارة العرب والمسلمين ؛ فلا ينبغي له أن يغرد خارج سرْبه من العلماء الذين سبقوه في هذه البلاد، و لا الذين هم له معاصرون، وهم ولله الحمد كثْر. مكانته العلمية مصانة بينهم، وكلّهم مجمعون علي ‘‘عدم منازعة الأمر أهله‘‘ و علي وجوب الطاعة للحاكم ‘‘علي أثرة علينا ‘‘ ، وعلي ‘‘السمع والطاعة ، ما لم تروا كفرا بواحا‘‘ لكم من الله عليه برهان‘‘.
ولا يسعنا إلا أن نخرص هنا، فإننا ، في موضوع يتعلق بحديث عبادة بن الصامت، الشهير عند أهل السنة و الجماعة، بين يدي الشيخ محمد الحسن ولد الددو، حفظه الله، نصبح كـ ‘‘حامل التمر إلي هجر‘‘ أو كـ ‘‘حامل الصخر إلي جبل‘‘ ؛ لكنّنا نذكّر بذلك، من باب التذكير، والذكري التي تنفع المؤمنين، لا غير.
ونسأل شيخنا الموقّر، أين انت ممّا يجري في موريتانيا اليوم؟ ألم يطردْ رئيسنا، حفظه الله و أيّده، جهارا نهارا، سفارة الكيان الصهيوني؟ ألم يصرّح، في شجاعة واستقلالية وسيادية، عزّ نظيرها في الوطن العربي والإسلامي اليوم، كما أسلفنا، : (أن موريتانيا ليست دولة علمانية !) ؛ ألم يأمر بطباعة المصحف الشنقيطي؟ ألم يرع العلم والعلماء، ويكرمهم، ويخصّصْ أجورا للأئمة؟ ألم يشيّد جامعة ‘‘العيون‘‘ الإسلامية؟ ألا يرعي المعهد العالي للدراسات والبحوث الاسلامية، الذي حاول ‘‘التواصليون‘‘ الاحتواء عليه، فلم يسمح لهم بذلك، ليبقي هذا المعهد صرحا علميا صرْفا، ملْكا لجميع الموريتانيين، يخرّج الأخصائيين في العلوم الشرعية ؟ ألا ننْعم بالأمن و الأمان، ولله الحمد، في زمن، أخفقت فيه الكثير من الأنظمة، في المحافظة علي أمْن واستقرار أوطانها؟
أمّا بخصوص سحب ترخيص ‘‘معهد تكوين العلماء‘‘ و ‘‘جامعة ابن ياسين‘‘ ، فلا أحد يشكّ في أنّ السلطات الموريتانية، والنظام الحالي، يقدّر للقوانين المعمول بها حقّ قدرها، ولا يساورنا أدني شك في أنه متي استجاب القائمون علي هذه المؤسسات لما يطلب منهم وفقا للقانون، فلن تكون هناك مضايقة. ولا ينبغي إخراج هذه الاجراءات عن سياقها الاجرائي، الإداري والقانوني الصّرْف. ولا ينبغي تحميل الأمور ما لا تحتمل، ولا شك في أن السلطات العليا للبلد لا تستهدف شخصا بعينه، ولا مجموعة محددة بذاتها، بقدر ما تسعي إلي حفظ النظام العام، ووحدة المسلمين، وعدم شق الصف، فيما يجب من طاعة الحاكم، وتوحيد المنهج العقدي للبلد وتحصينه، وهو المتمثل في الاسلام السني، الوسطي المعتدل، المالكي، الجنيدي، الأشعري؛ الذي ينبذ أهله التنطّع في الدين والغلوّ والتشدد فيه، المنافي لسماحته، ورحمته ورفقه. ولا أحد يشكك في أن الشيخ محمد الحسن ولد الددو من أحرص الناس علي حفظ هذه الأمور. وفي الختام ، نتضرع إلي الله العلي القدير، ونبتهل إليه، أن يخرج شيخنا الجليل من ‘‘قبضة‘‘ التواصليين، فما أحوجنا إليه، عالما وطنيا، عميدا لجامعة العيون الاسلامية، ومحاضرا و قيدوما في المعهد العالي للدراسات والبحوث الاسلامية، أو حتي وزيرا للثقافة والتوجيه الاسلامي، كما كان يوما خاله المرحوم، العلامة الجليل، محمد سالم بن عبد الودود، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته؛ فخدم الاسلام والمسلمين، بعلمه النافع، ووجه التوجيهات القيّمة، وكان من خيرة العلماء، الناصحين للحاكم، الناشرين للعلم الشرعي النافع، بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني. فنحن نريد الشيخ محمد الحسن ولد الددو، في انواكشوط قبل اسطنبول، وفي أعرشة وخيام قرية ‘‘العكبه‘‘ قبل أزمير، وفي لعيون قبل الرياض، وفي انواذيب، قبل اكوالالامبور...
وليسعْك، يا شيخنا المبجّل، ‘‘أعاننا الله وإياك علي حفظ ودائعه، وما استودعنا من شرائعه'‘، و لْيسعْ كلّ من اتّصف بصفة العالم الشرعي في بلادنا، في أيامنا هذه، ما وسع من قبلكم، ومن عاصركم، من العلماء الموريتانيين المحققين، في العضّ علي حديث عبادة بن الصامت، وحديث العرباض بن سارية، بالنواجذ. ولقد ثبت بالدليل والبرهان، البادي للعيان، صحة قولهم، قديما، ولقدم القول مزية : (سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم!).
أما الرسالة الثالثة والأخيرة، وليس الآخرة، فهي موجهة إلي كل مواطن موريتاني، في أن ينظر إلي جيشه الوطني، نظرة فخر واعتزاز. يقول السيد الرئيس، (لندع الجيش الوطني بعيدا عن تجاذباتنا السياسية، فهو جيش جمهوري، يخدم الوطن بامتياز، يحمي الحوزة الترابية، ويسهر علي أمن واستقرار البلاد). رسالة واضحة لا تحتاج إلي تعليق. فمن تابع المراحل الصعبة التي مرّ بها جيشنا الباسل، ووضعيته التي ظل عليها إلي عهد قريب، وكيف تمّ تسليحه وتجهيزه بأحدث الأسلحة، والمعدات، والأنظمة، والآليات؛ يدرك حقّ الادراك أنه قد تحقّق في ظل هذا النظام، وعهد هذا الرئيس، أكبر إنجاز للوطن، ألا وهو تسليح جيشنا الوطني وإعادة تأهيله، وضمان جاهزيته، للذبّ عن حوزتنا الترابية، ودحْر الإرهابيين، وهزيمتهم، وضمان عدم تمكّنهم من الوصول إلي أيّ شبْر من أراضي وطننا الحبيب، المترامي الأطراف. إنها بحق مؤسسة دستورية، تحمي الوطن، وتضْمن أمْن وسلامة واستقرار جميع المواطنين. فلندع الجيش الوطني، كما قال السيد الرئيس، بعيدا عن تجاذباتنا السياسية.
فوضعية جيشنا الباسل وما أصبح يتمتع به من عدّة وعتاد، وجاهزيّة وخبرات، وما أحرزه من نجاحات في مجال التصدي للإرهاب، يكفي للدعوة من طرف كلّ المواطنين إلي التمسك بهذا النظام، حرصا علي أمْن واستقرار البلاد.
وفي الختام، وبما أنّ هذه الرسائل الثلاث، كما أسْلفنا، تأتي قبيْل انعقاد أول جلسة للبرلمان الموريتاني الجديد، المنتخب لتوّه، فإن المواطن الموريتاني، يتمني ما يلي، من ممثّليه الجدد:
1-علي كل نائب أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وأن يستشعر عظم المسؤولية، حيث أصبح يمثل الشعب الموريتاني بأكمله. فلا يظهر علي الملإ وهو علي ما يخلّ بذلك التمثيل، أو يحطّ من قدْره.
2-يجب علي كل نائب أن يحترم سيادة الوطن، وذلك باحترام اللغة الرسمية للبلاد، أولا وقبل كل شيء. فاللغة مسألة جوهرية، ترمز إلي سيادة البلد، واستقلاله السياسي. فكما لا يعقل أن يتحدث نائب فرنسي، تحت قبة البرلمان الفرنسي بلغة غير الفرنسية، كذلك، علينا نحن أن لا نهين وطننا، فنتحدث بغير اللغة العربية، أو إن كان لا بدّ، فبإحدى اللهجات الوطنية. فليحذر المتفرنسون إذا، سليقة، أو انحيازا، فلا مجال للتحدث بالفرنسية تحت قبة البرلمان الموريتاني المقبل.
3- يجب علي كل نائب أن يتنبّه لنصوص القوانين المعروضة للنقاش، فيثْريها بملاحظاته الهادفة، وليتحرّى الدقة، والتثبّت، والتأكد من المعلومات التي يعرضها، أو الوقائع التي يذكرها، حتي لا يتحول برلماننا الموقر، إلي ساحة للتقاذف بالشائعات المغرضة، والأكاذيب الباطلة.
4-كل ما سوي الثوابت الوطنية المذكورة أعلاه، يمكن نقاشه، والاتفاق أو الاختلاف بشأنه، وعلي المعارضة أن تكون بنّاءة في معارضتها، وأن لا تسعي إلي عرقلة العمل البرلماني. والانضباط الحزبي يقتضي الالتزام بالخط السياسي لكل حزب، والتضامن مع أغلبيته، مما سيمكّن الأغلبية الرئاسية، بحول الله، من تمرير تطلعات المواطنين، بالاحتفاظ بهذا النظام، لمواصلة ما حقّقه من مكتسبات، أوّلها وأعزّها الأمن والاستقرار...