بقلم: عبد المجيد سويلم
يتحدث نتنياهو عن «اختراقات» كبيرة في مسار «التطبيع» بين العالمين العربي والإسلامي وإسرائيل، ويَعِد الجمهور الإسرائيلي بتطبيع حقيقي دون أن تضطر إسرائيل إلى تقديم أي تنازلات على صعيد «حل» الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل ويَعِد أن يتم «تجاوز» الحقوق الفلسطينية والذهاب باتجاه انخراط إسرائيل في منظومة أمنية وعسكرية واقتصادية شرق أوسطية جديدة، تكون فيها العلاقات السياسية بين إسرائيل ودول المنطقة «طبيعية».
ما حقيقة هذه الوعود؟ وإلى أي حد يمكن الركون إليها.
منذ مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، بل ومنذ الحملة الانتخابية التي جاءت بالرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدّة حكم البيت الأبيض، كان هناك توجهات واضحة نحو «حل» الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في اطار «إقليمي»، وكان واضحاً أن هذه التوجهات سترتكز على الأسس والمبادئ التالية:
أولاً، خلق مصالح أمنية وعسكرية واقتصادية مشتركة بين بلدان المنطقة بديلة عن حالة التضاد القائمة في هذه المصالح، والعمل على أن يتم تهيئة الظروف لبلورة المصالح «الجديدة» في اطار منظومات أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية وفق التوالي المذكور.
ثانياً، يستحيل تحقيق ذلك بدون خلق وبلورة «العدو» الجديد وشيطنته لكي يكون هذا «العدو» هو المبرر الأساسي لتغيير الأولويات والتحالفات.
في هذا الاطار تم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وتم تبني وجهة نظر إسرائيل بالكامل من هذا الاتفاق، وتم فرض عقوبات قاسية على إيران تماماً كما كانت تطالب إسرائيل.
في هذا الاطار جاء توتر الرياض، وفي هذا الاطار عُقدت صفقات أسلحة ضخمة بين بلدان الخليج العربي والولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وفي هذا الاطار بدأ الحديث عن أهمية وضرورة أن تكون إسرائيل جزءاً من منظومة المواجهة لإيران وما تشكله من أخطار على دول المنطقة، وفي هذا السياق بدأ الحديث عن الهلال الشيعي وعن ضرورة تصدي الحلف «السنّي» لإيران بمشاركة إسرائيل.
ثالثاً، الذي أخّر قيام هذا الحلف بصورة علنية ورسمية هو التهوُّر الأميركي بنقل السفارة إلى القدس والاعتراف بكونها عاصمة لإسرائيل.
لم يكن ذلك مصادفةً أو تعبيراً عن خفة سياسية كما تبين الآن، وإنما كان «تهوُّراً» محسوباً وصدمةً أراد من خلالها ترامب أن يضع العالمين العربي والإسلامي أمام «واقع» جديد، وذلك في اطار رؤيته وكل فريقه المساعد لحاجة العرب إلى أميركا وإسرائيل لمواجهة إيران، أصبحت من الأهمية والأولوية بما يسمح بقبول ضمني لذلك الاعتراف والنقل، وبما يسمح بالبدء الفعلي بتشكيل التحالف الجديد.
هذا هو سبب التأخير الأول، أما السبب الثاني الذي يقف وراء تأخير الإعلان الرسمي عن الحلف الجديد، فهو الموقف الفلسطيني الصلب، والتصدي لإدارة ترامب وإسرائيل، ولكل من كان يراهن على تساوق «ما» من قبل القيادة الشرعية مع هذه التوجهات.
هنا أُربكت الإدارة الأميركية، وبدا وكأن كامل مشروعها أصبح في مهبّ الريح.
وعندما «اكتشفت» الإدارة الأميركية أن الموقف الفلسطيني مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود وأقصاها في مواجهة التوجهات الأميركية فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية تحديداً، بدأت هذه الإدارة بمرحلة جديدة من هذا «التهوُّر»، وهو تهوُّر ما زال في اطار «المحسوب»، وما زال في اطار المراهنة على إجبار القيادة الفلسطينية على التراجع، بدلاً من تراجع الإدارة الأميركية.
أغلب الظن هنا أن إسرائيل ومن أجل المحافظة على «مكتسب» الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأميركية إليها، استعاضت عن قيام الحلف الجديد والإعلان الرسمي عنه «باعترافات» جديدة وعمليات «تنسيق» أمني وعسكري مع بعض البلدان العربية، إلى أن يتم المزيد من ترويض الأجواء.
وهذا هو ما يفسّر تراجع الإدارة الأميركية ست مرات متتالية عن إعلانها «صفقة القرن»، وهذا ما يفسر كيف أن إسرائيل ما زالت تخشى أن يكون هذا الإعلان نقطة انفجار سياسي في المنطقة، أو أن يكون هذا الإعلان بمثابة إعلان فشل مبكّر.
ومن أجل لَيِّ ذراع القيادة الفلسطينية تم اللجوء إلى سلسلة من الضغوط على القيادة الفلسطينية.
ضغوط سياسية ودبلوماسية تمثلت في إغلاق مكتب المنظمة ومحاربة كل توجهات القيادة الفلسطينية على صعيد العلاقات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة ومؤسسات القانون الدولي.
كما كان ملفتاً بشكل خاص موقف الولايات المتحدة من «اونروا» ومحاولة إنهاء دورها، حتى لو أدى ذلك إلى تجويع مئات آلاف الفلسطينيين.
ضغوط مالية تمثلت بقطع كل أنواع المساعدة للسلطة الفلسطينية، والتي كانت تقدر بحوالي 450 مليون دولار سنوياً، حتى وصلت الأمور إلى إنهاء دور وكالة التنمية الأميركية في فلسطين، أو هي على الطريق إلى ذلك، وإلى أن وصلت الأمور إلى سحب المساعدات عن المستشفيات الفلسطينية في القدس وغيرها.
وأما الابتزاز الأكبر والضغط الهائل الذي استخدمته الولايات المتحدة وإسرائيل فهو «ابتكار» الأوضاع الإنسانية في القطاع، ومحاولة خلق كيان فلسطيني في قطاع غزة يكون بديلاً لمشروع الاستقلال الوطني واستعاضةً عن كافة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وبالرغم من أن هذه المحاولة ما زالت مستمرة، وهي تلقى استجابات كلية أو جزئية، مباشرة أو غير مباشرة من قبل تيارات بعينها داخل حركة حماس وغيرها، إلاّ أن «النجاح» هنا ما زال محدوداً للغاية، وما زالت هذه المسألة بالذات بعيدةً عن التبلور التام لأسباب داخلية إسرائيلية، وأخرى إقليمية، وبالأساس لأسباب فلسطينية مانعة حتى الآن.
لكن مقابل هذه الموانع هناك الكثير من الهرولة، وهناك المزيد من إدارة الظهر لفلسطين، وهناك الكثيرون ممن ينتظرون الدخول في سباق هذه الهرولة.
ما يمنع هذه الهرولة هو الموقف الفلسطيني وصلابته وثباته ووضوحه وصراحته التي لا تقبل أنصاف المواقف، وتعدد الوجوه ومجالات التأويل.
يجب أن يتحول التطبيع المجاني مع إسرائيل إلى كلفة سياسية عالية، وفلسطين هي القادرة الوحيدة على وضع هذه الكلفة على جدول الأعمال.
فلسطين ستكون الضحية والقربان إذا لم تكن فلسطين نفسها صارمة وحازمة وقوية وموحّدة في مواجهة هذه الموجة.
إذا ما تمكّنا من التصدي الناجح لهذه الهجمة فإننا سنساهم بصورة فعالة ومباشرة في إفشال ترامب، وربما إسقاط نتنياهو، وقبل ذلك وبعده احباط مخطط تحويل غزة إلى كيان بديل عن الحقوق الوطنية.
وبالمناسبة، فإن المصالحة ستأتي رغماً عن كل من يعاديها ويتربّص بها عند أول بوادر إفشال ترامب وارتباك صفقته التي تتحوّل إلى أُحجية سياسية بسبب صلابة الموقف الفلسطيني منها.