بقلم: عبد المجيد سويلم
كثيرة هي الآراء التي حاولت قراءة العمليات الأخيرة. فبين التنبؤ باندلاع انتفاضة ثالثة وعارمة، وبين مجرد عمليات تكتيكية تعود لأسباب فلسطينية داخلية، ومنها تحضير حركة حماس أرضية اتفاق هدنة في غزة وقطع الطريق، ولو مؤقتاً على الإجراءات التي هدد بها الرئيس، وهي بالتالي محكومة بسقف التهديدات الإسرائيلية وبالمدى الذي يجعل إسرائيل تتجه لجبهة غزة من جديد.
في حين يرجح البعض هذه العمليات وهذا التدهور الأمني الى السياسة الإسرائيلية على كل الصعد والمستويات وخصوصاً في القدس والاستيطان، والامعان غير المسبوق بالتنكيل الاسرائيلي لكل ما هو فلسطيني.
ردود الافعال الاسرائيلية على هذا التدهور هي المؤشر الأهم، وكما ارى على قراءة هذه الأحداث وعلى صيرورات تحولها الى مشهد جديد وواقع جديد واتجاهات اساسية في التطورات اللاحقة.
اقصد أرشدتنا اسرائيل نفسُها الى اتجاه الاحداث والى طبيعة المشهد القادم.
كانت اسرائيل قبل هذه الأحداث، وبتوجيه مباشر من نتنياهو، تحاول افتعال حالة امنية في الشمال، وقامت بتضخيم الامر على المستوى الاعلامي والى ابعد حدود الاستعراض، وذهبت بالأمور الى ما اوحت به وكأنه حافة الهاوية.
الامر لم ينته بعد، والمناورة قائمة وتطوراتها ما زالت قائمة، وصولاً او تحضيراً لأحداث عسكرية وأمنية في غاية الخطورة.
لكن ردود الفعل الاسرائيلية على احداث الضفة كانت أعلى بكثير من المتوقع، واكبر بما لا يقاس منها، كردود افعال من أي وقت مضى من الاوقات.
ترى ما هو السبب؟
اذا كان الأمر يتعلق بأزمة نتنياهو، وان كان هذا الافتعال يرمي الى خلق اجواء جديدة وتهديدات جديدة تحرف ازمة نتنياهو عن مسارها، فهل ربح نتنياهو من هذا الافتعال او خسر؟ وكيف؟
الجواب المبدئي هو ان النتيجة صفر، بحيث ان نتنياهو لم يربح ولم يتمكن حتى الآن من وقف اتجاه الخسارة الذي نتج عن أحداث غزة.
لهذا فهو كان أحوج ما يكون الى ردود الأفعال الاسرائيلية على العمليات العسكرية، وكان يرمي ولايزال الى استثمار هذه العمليات ليعيد مكانته الأمنية بعد احداث غزة، وبعد «سكوت» حزب الله عن «درع الشمال» وهو السكوت المريب وربما يكون السكوت المخيف للمؤسسسة الامنية ولنتنياهو على حد سواء.
اذاً، المسألة مدروسة ومحضرة علّها تعوض نتنياهو النقص الذي ألم به كمكانة ودور في هذه المرحلة.
الدليل الأكبر على صحة هذا الاستنتاج هو موقف المؤسسة الامنية. هذه المؤسسة وبالرغم من تنفيذها لهذه السياسة العنيفة الى ابعد حدود العنف، الا ان توصياتها تحذر من مغبة الاستمرار بها او التمادي بممارستها، لأن الأمر يتعلق او قد يتعلق بأحداث اكبر من القدرة على السيطرة عليها.
اي تحول العمليات في الجانب التكتيكي سياسياً والمحسوب الى درجة معينة أمنياً (من الجانب الفلسطيني) الى حالة اكبر من مجرد عملية هنا وأخرى هناك، والى هياج شعبي فلسطيني عارم.
لهذا كله، فنحن في الواقع على حافة التدهور الشامل والانزلاق نحو حالة أمنية غير مسبوقة تشمل فيما تشمله اجتياحاتٍ جديدة وتشمل صدامات اكبر مع المستوطنين، كما ستشمل حتماً اتساعاً لرقعة المشاركة الشعبية في الأحداث.
التحرك الإقليمي لوقف هذا التدهور ليس صدفة، وليست تحركاً روتينياً معتاداً. الأمر في اغلب الظن يأتي في إطار القراءة الأردنية والمصرية لما يمكن ان تتدهور نحوه الأمور.
والأمر في اغلب الظن يأتي في حسابات اكبر من الضفة، وأبعد منها، وقد يشمل حرباً كبيرة على مستوى الإقليم.
هناك تقليم لأظافر إسرائيل في سورية لم يعد خافياً بعد السياسة الجديدة لروسيا حيال هذا الأمر تحديداً، وهناك مناخات جديدة في لبنان مفادها ان حزب الله يمكن ان يتخلى عن بعض شروطه مقابل تماسك معين بات مطلوباً في ضوء التوقعات بانفجار الوضع امنياً وعسكرياً.
وهناك شعور من نتنياهو ومن ورائه اسرائيل عموماً ان سورية تذهب سريعاً الى الحل السياسي، وان اسرائيل في هذه الحالة تكون كمن خرج من المولد ببعض حبات من الحمص ليس اكثر، ما يعني ان نتنياهو يجهز المسرح لتدهور أمني كبير.
اذا تبين ان ردود الأفعال الإسرائيلية على أحداث الضفة لن تكون كافية، واذا ما كان التحرك الإقليمي مدعوماً عربياً وهو ما سيؤدي الى «لجم» التدهور مؤقتاً، فإن نتنياهو لن يذهب الى الانتخابات المبكرة قبل افتعال ازمة اكبر واوضح في أحداث الضفة.
لذلك كل ما نراه خادع، والأمور لا تسير نحو التهدئة، وانما نحو تسويات مؤقتة إيذاناً بما هو اكبر واخطر بكثير مما جرى هنا وهناك.
المستوطنون لن يعطوا نتنياهو اية فرص للتهدئة، وهم يعدون العدة لاعتداءات كبيرة، وقد تصل الأمور الى دخول ميليشيات مسلحة بالعشرات والمئات الى مدن او أحياء او بلدات، وقد نشهد عمليات قتل جماعية لفلسطينيين في هذه التجمعات، وليس لهؤلاء المستوطنين من رادع حقيقي لا سياسياً ولا أمنياً، لأن ردعهم الأمني يعني الصدام معهم، والصدام معهم مكلف على الصعيد السياسي من اية جهة سياسية.
هي فرصة ربما تكون سانحة (من وجهة نظر غلاة المتطرفين في اسرائيل) لإشعال حرب فرض وقائع جديدة على الضفة، في نفس الوقت الذي تجري فيه محاولة تحييد قطاع غزة ودراسة الوقت المناسب للانقضاض على لبنان، وربما الصدام الشامل مع سورية ومع ايران لاحقاً او بالتوازي في مناطق معينة وخصوصاً في منطقة المضيق.
كل ما نراه خادع، وكل ما تحضر له إسرائيل هو العنف والعدوان، والاجتياحات خصوصاً وان امر صفقة القرن ليس على ما يرام، وحالة ترامب نفسه ابعد ما تكون عن الاستقرار.
الحسابات الصغيرة لا تجدي ولا تنفع في رؤية التطورات الكبيرة، والمسألة أبعد من أحجيات الانتفاضة الثالثة، وتحميل المسؤوليات على هذا الطرف او ذاك، وحسابات إسرائيل واضحة.
تقويض السلطة والمنظمة والاستثمار في تهالك حركة حماس للامساك بسلطتها في غزة الي حين، ثم الذهاب الى البحث عن الهدف الحقيقي في الشمال.
كل ما هو دون ذلك مظاهر خادعة.