قد قررت ابتداءً من يوم الأحد الموافق 18 ـ 12 ـ2011، أن آخذ لنفسي قسطا من الراحة، أتوقف فيه عن الكتابة في الشأن السياسي التي أعتبرها من أشق أنواع الكتابة، وذلك لأتفرغ لمشروع رواية سميتها " يوميات شخص عادي جدا"، وكان من المفترض أن تكون قد اكتملت منذ مدة، إلا أن التزامي بنشر مقال سياسي كل يومين أو ثلاثة حال بيني وبين البدء الفعلي في كتابتها.
تعطل المشروع كثيرا، لذلك فقد كان لابد من اتخاذ قرار حاسم ومتطرف كهذا، ألتزم من خلاله للقراء الكرام بأن أكتب لهم في كل أسبوع حلقة جديدة من رواية "يوميات شخص عادي جدا "، وأن أنشرها، وأن أواصل كتابة الحلقات، حتى أصل ـ إن شاء الله ـ إلى الحلقة الأخيرة، والتي ستكون خاتمة لرواية لا أستطيع أن أتنبأ لكم الآن بحجمها الحقيقي، ولا بمتى ستكتمل، ولا بعدد الحلقات التي سأحتاج لكتابتها حتى أكملها.
وهذه الرواية التي سأعيد للمرة الثانية كتابتها، ابتداءً من اليوم، كانت قد اكتملت بصياغة قديمة، في النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهي توجد منذ ذلك الوقت مكتملة، وبخط اليد على صفحات أوراق بالية، وغير متجانسة. ولم يحصل أني عدت إلى تلك الأوراق منذ أن اكتملت كتابتها قبل خمسة عشر عاما.
ولا تزال تلك الأوراق محفوظة منذ مدة، وبطريقة بدائية، في أرشيفي الشخصي، المكدس في حقيبة متهالكة، لم أعد قادرا حتى على تذكر الرقم السري الذي يُمَكن من فتحها.
وكنتُ قد اخترت للنسخة الأولى من الرواية عنوانا بعيدا كل البعد عن العنوان الحالي، فقد كان عنوانها "أعقاب سجائر رخيصة"، وكانت بمثابة رواية حقيقية، حاولت أن أسرد من خلالها حياة شخص عادي جدا، عاش حياة بسيطة، خالية من الإثارة، ولكني أضفتُ لتلك الحياة البسيطة والعادية أحداثا خيالية لكي أشد القارئ إلى رواية أردت لها أن تحقق شهرة كبيرة، مثل العديد من الروايات العالمية التي استطاعت أن تصعد، بأشخاص كانوا مغمورين، إلى قمة الشهرة.
في تلك الفترة كنت على يقين كامل بأنه لا يحول بيني وبين الشهرة، إلا أن أكمل رواية "أعقاب سجائر رخيصة"، وأن أنشرها. وكان ذلك الشعور يمنحني طاقة غير عادية، وحماسا لا يفتر، حتى في تلك الأوقات التي كنت أعاني فيها من نضوب في الأفكار، فكانت تمر الساعات الطوال، وأنا ممسك بقلمي، دون أن أتمكن من كتابة فقرة واحدة، ودون أن يصيبني ـ رغم ذلك ـ ملل من الانتظار، انتظار قدوم لحظة حبلى بالأفكار والخواطر، قد لا تأتي في ذلك اليوم.
كنت واثقا بأن المذكرات أو الرواية، وكلا التسميتين جائزة، ستحقق شهرة عالمية. وكنت في تلك الفترة كلما أنهيت قراءة رواية عالمية شهيرة، أقول في نفسي : ألا أستطيع أن أكتب رواية مثل هذه؟ وكانت قراءاتي لتجارب بعض المشاهير من الكتاب تغريني أكثر بطرح ذلك السؤال.
كنت أردد مع "إدغار رايس بوروس" مؤلف رواية "طرزان"، جملته الشهيرة التي قالها عندما اطلع على مجموعة قصصية منشورة في إحدى الجرائد: "إذا كان الكتاب يقبضون ثمنا لكتابة مثل هذه الخزعبلات، فإن بإمكاني كتابة خزعبلات أحسن من هذه". ولقد كان هذا الكاتب، وحسب سيرة حياته، أقل تعليما مني، وأكثر فشلا في حياته الخاصة، ومع ذلك فقد قرر أن يكتب رواية، فلِم لا أكتب أنا رواية ؟ ذلك سؤال طرحته على نفسي عشرات المرات.
وكثيرا ما كان يشجعني على الكتابة أني عندما أقارن نفسي ببعض الكتاب الكبار، وأقول البعض، أجدني دائما أحسن حالا منهم، من حيث مستوى التعليم، ومن حيث تحديات الحياة، التي كانت تواجههم، أثناء كتاباتهم الأولى التي اشتهروا بها، لذلك فقد كنت واثقا من أن كتابة رواية أشتهر بها كما اشتهروا، لن تكون مهمة صعبة، ولا قرارا عابثا.
كان ذلك هو إحساسي وشعوري في ذلك الوقت، وربما يكون ذلك نتيجة لغرور زائد، أو نتيجة لسبب آخر، لا أدري. المهم أن الثقة في النفس التي كنت أكتب بها في ذلك الوقت، والحلم الكبير الذي كنت أسعى إلى تحقيقه، لم يكونا ليجتمعا في شخص واحد، إلا وأغرياه بما أغرياني به، حتى ولو لم تكن له أي صلة سابقة بالكتابة.
كانت فصول الرواية تتقدم بسرعة مرضية، ولكني كنت أشعر في الساعات الطويلة التي أخلو فيها مع بطل روايتي، بأن هناك شيئا ما في حياته قد بدأ يتغير. لم أستطع أن أحدد ملامح ذلك الشيء، ولا طبيعته، ولكني مع ذلك كنت أحس بذلك التغيير الهادئ، والذي كان يزداد وضوحا كلما اقتربت من خاتمة الرواية.
ولكن في اليوم الذي أكملت فيه كتابة الرواية، حدثت مفاجأة لم أكن أتوقعها، وهي مفاجأة جعلتني أوقن بأن التغيير الذي عرفه بطل الرواية، لم يكن تغييرا هادئا، بل كان تغييرا عنيفا، حتى وإن لم يشعر به أقرب المحيطين به.
كان أول ما تلفظ لي به، بعد اكتمال الرواية :
ـ يستحيل أن أقبل نشر هذه الرواية السخيفة، والمليئة بالهراء، وبالكلام التافه.
لم أجبه بأي كلمة، فلم يكن لديَّ ما أقوله، بل إني لم أكن قادرا على الكلام فقد أخرستني المفاجأة.
ولم يرحم هو حيرتي، بل أردف قائلا:
ـ عليك أن تحرق كل الأوراق التي كتبت فيها سيرة حياتي المزيفة.
والغريب أن بطل الرواية، وقبل ذلك بأيام معدودة، كان سعيدا بالتزييف الذي كنت أقوم به، وكان يفرح كثيرا كلما أضفت لسيرة حياته بطولات ومواقف وهمية، من نسج خيالي. وكان الشيء الوحيد الذي يغضبه في تلك الأيام، هو أن تمر ساعة لا أخلو فيها به، لكي نشتغل فيها معا بكتابة سيرة حياته الرتيبة والمملة.
فما الذي جعل بطل الرواية يتخذ قراره المفاجئ بعدم نشر الرواية، بل ويطالب بحرقها رغم أنه كان أكثر تحمسا مني لنشرها؟
يمكنكم أن تتوقعوا مني كل شيء، إلا أن أجيبكم على ذك السؤال.
وما أستطيع أن أقوله لكم الآن، هو أني كنت مجبرا على أن أستجيب لأوامر بطل الرواية بعدم نشرها. ولم يكن لدي أي خيار آخر، فالقرار الأخير كان له، إلا أني مع ذلك لم أقم بحرق الأوراق كما طلب هو مني، وذلك لأني كنت أعلم أنه لم يكن جادا عندما طالب بحرق تلك الأوق.
في تلك الفترة التي أعقبت ذلك الحادث المثير، كنا نتفادى الحديث عن الرواية، فهو كان يعلم يقينا أني لن أنشرها، وأني لن أطلع عليها أي شخص آخر، مهما كان، ولكنه أيضا، كان يعلم في المقابل أني لم أحرق مسودتها كما طلب مني، ولكنه تجاهل ذلك، ربما لأنه كان يعلم بأن حرق حصيلة جهد استمر خمس سنين من العمل الشاق، لن يكون بالأمر السهل.
مرت سنوات بعد ذلك لا أدري كم عددها، وأرجو أن تعذروني لأن هناك أحداثا هامة في هذه الرواية لن أستطيع أن أضبط لكم تواريخها، بل إن هناك أحداثا لن يكون بإمكاني أن أرتبها لكم زمنيا، وذلك بسبب أن علاقتي بمادة التاريخ لم تكن في أي يوم من الأيام بالعلاقة الجيدة، وذلك لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأن علاقتي مع الجغرافيا كانت على ما يرام.
المهم أنه في يوم ما، وبعد سنوات لا أعرف كم عددها، اقترح عليَّ بطل الرواية، أن أعيد كتابة سيرة حياته للمرة الثانية، ولكن بشرط أن أكتبها كما هي، بلا إضافات وبلا أحداث مختلقة للتشويق وللإثارة.
في البداية سخرت من الاقتراح، وكانت حجتي بأنه ليس في حياة البطل أحداث حقيقية مثيرة يمكن أن تشد القارئ، فهو ليس من الشخصيات المشهورة الذين تعود الناس على قراءة سيرهم. فهو لم يكن زعيما، ولا قائدا، ولا مفكرا، ولا شاعرا، ولا فنانا، ولا إعلاميا، ولا موظفا كبيرا، وإنما هو واحد من الناس العاديين، ومن بسطائهم الذين يكافحون من أجل لقمة العيش، ويتزاحمون يوميا مع غيرهم من البسطاء في حافلات النقل العام، ويتسكعون أمام المكاتب بشكل دائم، بحثا عن فرصة عمل قد لا تأتي أبدا.
وكان رد بطل الرواية، بأن كل هذه الحجج هي لصالحه، وبأن فكرة كتابة سيرة حياة شخص عادي جدا، هي فكرة إبداعية في حد ذاتها، لأنها ليست مألوفة، وهي قد تشكل نقطة قوة في هذا العمل، وقد تصبح هي السبب الأبرز في نجاحه. وإذا كان الكُتَّاب قد تعودوا على تقديم تجارب حياة ناجحة، فلِمَ لا تكون أنت أول من يقدم تجربة حياة فاشلة؟
لم يتوقف النقاش بيننا، بل واستمر لفترة ليست بالقصيرة، وكان نقاشنا في بعض الأحيان يتسم بالعصبية والحدة وبتبادل الاتهامات.
فبطل الرواية كان يتهمني دائما بأني مجرد كاتب فاشل، وأني لست أهلا لكتابة سيرة حياته، وأن عدم أهليتي لكتابة سيرة حياته هو ما جعلني أرفض اقتراحه، وكان يتهمني أيضا بالجبن. ولقد طلب مني أكثر من مرة أن أكون شجاعا، وأن أعترف له بأن سبب رفضي لكتابة سيرة حياته، لم يكن بسبب خلوها من الأحداث الجسام ـ كما أنت أقول ـ وإنما كان بسبب عدم ثقتي في قدرتي على كتابة شيء مفيد.
وأنا بدوري كنت أتهمه هو بالفشل، لأنه لم يستطع أن يصبح شخصا مهما، ولم يستطع أن يجعل من نفسه زعيما، أو قائدا، أو عالما، أو مفكرا، أو حتى إرهابيا أو مجرما عاتيا تثير حياته فضول الناس، ولذلك فهو يقترح عليَّ أن أكتب له سيرة حياته لكي أجعل منه شيئا مذكورا، بعد أن فشل هو في ذلك.
لقد كانت العلاقة بيننا في غاية التعقيد، فهو رغم اتهاماته القاسية لي لم يفكر يوما في أن يلجأ إلى غيري من الكتاب الناجحين لكي يكتب له سيرة حياته. لقد كان يثق بي ثقة كاملة، حتى وإن وصفني بالفشل والجبن في أكثر من موقف.
وأنا أيضا لم يحدث أن فكرت في أن أترك من وصفته أكثر من مرة بالفاشل، وأن أبحث عن شخص ناجح غيره لأكتب له سيرة حياته.
كان يعلم أنه لن يجد أفضل مني لكتابة سيرة حياته، وكنت أنا بدوري أعلم بأني لن أجد تجربة حياة ألِمُّ بالكثير من تفاصيلها كما هو الحال بالنسبة لتجربة حياته، ولن أجد تجربة حياة غنية بالأحداث كتجربته هو، حتى وإن بدت في ظاهرها خالية من أي حدث مثير.
ولقد قال لي، في آخر مرة نناقش فيها مشروع الرواية، قبل الوصول إلى اتفاق:
ـ لنفترض جدلا بأن حياتي مجرد صحراء قاحلة، ولنفترض جدلا بأنك أنت كاتب مبدع، ألا يستطيع الكاتب المبدع، أن يصور الصحراء القاحلة، بطريقة أنيقة وجذابة، تجعلها تنافس الساحات الخضراء في جذب واستقطاب الناس؟
وإذا كنت حقا كاتبا مبدعا، كما تزعم، فلِمَ لا تحاول أن تجعل من الصحراء الجرداء جنة غناء؟
ـ سأحاول ذلك، ولكن بشرط.
ـ وما هو؟
ـ إن نجحت الرواية فسأحسب النجاح لي وحدي، وإن فشلت فسنقسم الفشل مناصفة بيننا، بحيث تعترف أنت بأن حياتك لم يكن فيها ما يستحق أن يقدم للناس، وأعترف أنا بأني لست بالكاتب المبدع.
ـ أوافق.
تظاهرت بأني أصدقه، رغم أني كنت أعلم يقينا بأنه في حالة نجاح الرواية فإنه سيحتكر نجاحها لنفسه، وفي حالة فشلها ـ لا قدر الله ـ فإنه سيحملني لوحدي ذلك الفشل.
كنت أعلم ذلك، ولكن لم يكن بإمكاني إلا أن أبدأ في كتابة يومياته، فهو في النهاية يملك أوراق ضغط كثيرة، وهو قادر على أن يجبرني على أن أبدأ الكتابة، في أي وقت شاء، وبأي طريقة شاء، وبدون أي شرط، إلا إذا كان شرطا فارغا وبلا دلالة، كما هو الحال بالنسبة لشرطي المتقدم.
ثم إن قوله : " وإذا كنت حقا كاتبا مبدعا، كما تزعم." كان بمثابة تحدٍّ لي، وكان لابد لي من الرد على ذلك التحدي بشكل مناسب، أي برواية ناجحة، أثبت من خلالها بأني كاتب مبدع حقا، وبأني لست أنا وحدي من يزعم ذلك.
والحقيقة أنه لم يكن أمامي أي خيار، فبطل الرواية لم يعد قادرا على الانتظار، ولم يعد يطيق العيش في الخفاء، بعيدا عن عالم الأضواء، وأصبح في شوق شديد لأن تتعرف عليه الناس.
فتعالوا بنا نمط اللثام عن شخص عادي جدا، يُخَيل إليه أنه غير عادي، وإن كان في حقيقته مجرد شخص عادي لا يلفت الانتباه، مثله مثل أي شخص آخر قد يمر بكم صدفة، دون أن يترك في ذاكرتكم أية لقطة مهما كانت طبيعتها لتتذكروه بها، إن صادفتموه مرة أخرى.
تعالوا بنا نستمع لسيرة حياته كما رواها لي هو.
وتعالوا بنا نبدأ سيرته من البداية.
تلكم كانت مقدمة رواية "يوميات شخص عادي جدا"، وقد أعدتُ نشرها بمناسبة صدور الرواية في نسختها الورقية، والتي أصبحت متوفرة في مكتبة "جسور عبد العزيز" عمارة مامي .