يرى علماء الفكر السياسي الحديث أن أنماط التغير في حركة العلاقات الدولية قد أدت إلى نقص في قدرة الدولة على التحكم في مواطنيها إثر ضغوط من أعلى جاءت من الفاعلين فوق الدولة ، وأخرى من أسفل جاءت من فاعلين دون الوطن، وتبعا لذلك تغير التعريف العلمى السياسي والقانوني للسيادة الوطنية من احتكار السلطة من جانب الدولة إلى مسؤولية الدولة عن حماية مواطنيها، لتفتح أطراف فوق الدولة أبوابًا أخرى لحماية مزعومة لبعض المواطنين من خلال ذريعة التدخل الإنساني .
وامتد هذا التغير إلى مفهوم الأمن القومي فلم يعد مرتبطًا فقط بالدولة ونظامها السياسي بل امتد ليشمل مفهوم الأمن الإثني والإنساني بالتعاون مع مسار جزئي يسعى لأجندات مبتورة تخدم ما دون الوطن وعندها يتم نقل الاهتمام من التركيز على «الدولة» باعتبارها فاعلاً إلى الاهتمام بمدى استجابتها للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تخدم الالتزام المطلق للسردية الأجنبية وتكريس ثقافاتها التابع والخانعة ، ومن ثم خلق بئة ملائمة أجنبية ومحلية لنشر الآراء المغشوشة ، التي تتسم بالكراهية والدعاية المسعورةوالصيحات الحاقدة لتوغر الصدور وتزرع الحقد في حنايا بعض المواطنين من أجل تمزيق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية ، ليصل الأمرالى فجور في الخصومة ، وجرح متعمد وعميق للمشاعر الوطنية .
وهذا يعني أَنَّ القوى التقليدية ستبقى ضالعة في الوقوفِ ضِدَّ أَي مشروعٍ يتعلَّقُ بالوحدة الوطنية التي هي بحاجةٍ اليوم إلى جهد مخلص وقوى أصيلة تنهض بشؤونها وترتق ما فتقه بعض أبناء الوطن ، بعد أن عجزت جهات أخري ذات أفق ضيق عن استيعاب الموقف ، ذلك أن الصراع العنيف الذي تشهده الدول الهشّة يولّد الانقسام الاجتماعي، ويعطّل جهود التقدم ، ويقف حائلاً أمام تحقيق التنمية ، وهو الأمر الذي ينتهي إلى مسار التسلطية وانتهاك حقوق الإنسان .
وهذا هو محل الإعتراف بالجميل للمناضلين في حزب الصواب الذين رفضوا مغادرة الميدان رغم سلطة العقل المجتمعيِّ الراهن ، باعتبار أن الأفكار تستمد أهميتها، وتاريخيتها، من خلال الوعي النقدي الشمولي للواقع ، حيث ينطلق ذلك الناظم النضالي من الراهن ومن السياق ويعتمد على التحليل المادي ليستخلص بعدها الرؤى من كل ما هو نسبي وتاريخي بالنظر إلى أن الثبات فيما يخلد ويبقى والمرونة فيما يخلد ويتطور ، ليمارس دوره من موقعه الفكري المستقل والمسؤول ، وينزع الى الفعل في مستقبل يتشاركه والجماهير بوصفه جزءا منهم ،ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى الأمة كلها ، ويعمل على نشر قيم التقدم والوحدة والحرية ونبذ التجزئة والفرقة ، بل إنه يعي أكثر من ذلك أن عليه أن يزرع الأمل في النفوس في هذا الظرف بالذات الذي هبطت فيه المعنويات ، وعمت فيه خطيئة التنابز بالألقاب.
وحينها تتحول البلاد إلى كتلة ناهضة بعد أن تمردت على ثقافة اللاجدوى، الشكلانية عند العقل التقليدي التابع الذي يجرّد التحولات المرحلية من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي في حالة من التفرد و التنائى، لأن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات ، والانخراط في التعاطي مع الإطار الضيق الذي ارتضاه العدو أصلا ، ويضع نفسه في الإطارالمنعزل ، يكرس دون شك آثارا رجعية ، خصوصا أن شعار الاتحاد أو الاندماج الذي يتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية تسعى إليها الكيانت المتحضرة الكبرى ، مع أنها تصقل الجميع من درن العنصرية ، وهو ما يشير إلى أن إعادة إنتاج النموذج البديل المؤهل لتفكيك الخطاب التقدمي غير المستكين ، الذي يعمل على طمس واقع التبعية ، لا يمكن أن يرتقي بوعي سطحي ،ولايمكن أن تقوده فئة متواطئة ضد جمهورها.
من هنا فإن الاتفاق بين حزب الصواب وحركة إيرا يرتبط بإعادة بناء الوحدة الوطنية وصياغة النموذج الديمقراطي بما يحرره من انحيازاته المعرفية الغربية، ويجعله أكثر ارتباطاً بالسياق الحضاري والثقافي المحلي ، وفقا لرؤية تليدة جذرها البعثيون عبر نضالهم وكتاباتهم في دروية الدرب تحت عنوان " البعث ولحراطين " قبل أن يتم جمعها في كتاب يوضح بجلاء كيف كان البعثيون يدافعون عن جميع أبناء الوطن .
وبما أن حركة النضال العربي في موريتانيا قبل اليوم ضمت بين صفوفها قادة كبارا ومناضلين كثر من العرب السمرالذين تميزوا بنضالهم وتضحيتهم وتألقهم فلا غرو إذا كانت حركة إيرا قد أدركت الآن أن حزب الصواب وما يمثله من عمق تاريخي وثبات على المبادئ هو الجهة الأمينة على مناضليها ، بل إنها تدرك أكثر من ذلك أن أنصارها قد يتزودون من المخزون النضالي الوطني والقومي لحركة النضال العربي في موريتانيا .