لقد أسدى لنا الفقر – نحن الموريتانيين – من المعروف ما لا قبل لنا بمكافأته، ولن نتنكَر للجميل مجاراة لغيرنا، وبالمناسبة أجاز العدل، والعدل “وضع الشيء في موضعه”، أجاز المنَ، إذا اتفق وأن بدر التنكر من الذي كان محلا للمعروف. فمن أيادي الفقر البيضاء علينا أن حبانا بمادة مُلونة تميز بين الأخ النَصوح المنصف، والمشاقق اللدود.
ومن أيادي الفقر البيضاء علينا أن الخصاص في الغذاء ترك لنا مجالا لاستيعاب عويصات العلوم (… الجوع يدفع بالرغيف اليابس…) فمن وصايا أمهاتنا لنا، ونحن في سن الحداثة (وأيام الحداثة فاغتنمها**** ألا إن الحداثة لا تدوم)، أن نترك مجالا في المعدة لتمثُل ما هو مدون في الألواح. وقد صاغت الأمهات ذلك في القولة المشهورة عندنا نحن الفقراء “البدنة تذهب الفطنة” ومدرسة الفقر هذه، آمل ممن عيّرنا بالفقر أن يسائل عن خرِّيجيها من أدركهم، فكانت آثارهم المحمودة لها نار تَشُب على يفاع… خرجت الجهبذ التركزي والأساطين الجكني.
لم يعلم من عيرنا بالفقر أن سادتنا من أهل الشوكة كانوا يأنفون من جمع المال، وحياة النجعة، ومن صبأ منهم في هذا السبيل، أو خرج عن ملة قومه في ذلك عيروه، بل وسخروا منه. وقد ألمع فخر كُتّاب هذه البلاد الشيخ سيديا باب ولد الشيخ سيديا إلى شيء من ذلك.
ومن أيادي الفقر البيضاء علينا أن برى أجسامنا فلقد أورد الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” أن الأحنف بن قيس كان (… خفيف العارضين أحنف الرجلين ولكنه إذا تكلم جلى عن نفسه…) وليت من عيرنا بالفقر أثبت لنا إحدى فضائل الفقر، فالهيثم بن عدي الذي نسب الجاحظ له الحكاية، وقد أثبت للأحنف بن قيس من العيوب الخَلقية ما لا حصر له، قد ختم له بأنه مفوَه، عضب اللسان، والأمور بخواتمها. فالموريتاني صحيح إنه فقير، ولكنه إذا تكلم جلّى عن نفسه أما إذا كتب فالأمر أعلى… والخطب جلّ.
ومن أيادي الفقر البيضاء علينا قلة عددنا، (إن الكرام قليل) وقلة العيال يسر…
ولن يملي علي من عيّرنا بالفقر أن أذم الغنى فلقد دوّن الشعراء أن للغنى رب غفور، ومع ذلك لن يكون لصوت المعيِّر بالفقر صدى ولن يكون له ندى حتى يقنعني ببيت عروة بن الورد:
دعيني للغنى أسعى فإني **** رأيت الناس شرهم الفقير…
إن أندى لصوته أن يُعير بالغنى، لأن للغنى تبعات تجترح السيئات.
فليته بغير الفقر عيَّرنا…
منطقة المرفقات
الوزير السابق ،، وسفيرنا الحالي في سلطنة عمان الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود