عندما تتشابه برامج المترشحين لرئاسيات 2019، أو بالأصح حينما تلعب الشخصيات الخمسة بعينٍ مفتوحة على مستقبل لم نقرأ عنه حتى في قصص الخيال، فبعض الوعود من شدّة مثاليتها أُدرجت بالمدينة الفاضلة الخاصة بعصرنا وربما كان أفلاطون رغم مثالية طرحِه سابِقاً سيرفضها، سيندم على حلمه بمدينة يحكُمها الحُكماء، ماذا كان سيقول يا ترَ لو أبصر من يتفلسفون علينا بخطاباتهم؟
لاحظت أثناء قراءة برامج المترشحين الخمس إصرارهم على بدء مشاريع بصحرائنا الجذابة، هذه الخطابات الموجّهة مباشرة للتلاعب بمشاعر سكّان الصحراء، من أجل حصد أصواتهم يوم 12 ديسمبر لكن هل سيستجيب إخواننا هناك؟ لست أدري ولكن ما أشبه وعود اليوم بالأمس، والنتيجة أنّ لا شيء تحقق مع السابقين، والعجيب في الأمر أنّ المترشحين من أبناء النظام الذي خرجنا مطالبين بزواله فِداءً لعيون الحرّية وتغزُّلاً بالديمقراطية، ولأنّ عمر الحب قصير فغالبا ما تكون قصصه ذات نهايات مؤلمة وحتى قصة ساندريلا هناك من انتقدها لأنّ سيرورة القصة ليست بذات التفاصيل والنهاية لا تشبه ما عوّدونا عليه، أي تحوّلت الخطابات إلى تجارة الهدف من ورائها ربح الأصوات وما دُمنا بزمن التواصل الافتراضيّ فيمكننا إسقاطه على الواقع وتشبيه صناديق الاقتراع بمنشور يحتاج إلى اللايكات حتى يصل لأكبر جمهور ممكن.
عندما يتكلّم أبناء النظام القديم عن إرجاع أموال الدولة المهدورة وكأنّهم يستغبون المُستمع، فكيف لنا أن نثق في أصدقاء العصابة، كيف للشعب الذي عاش سنوات من الحرمان أن يثق وهل ستكون ثقته في محلّها؟ عندما يتكلّم الكثيرون عن حساسية المرحلة التي نمرّ بها، حيث لن تتجسّد ملامح الديمقراطية إلاّ بانتخابات حرّة ونزيهة! قد يقول البعض أنّ الوقت مناسب جداً للذهاب إلى صناديق الاقتراع، نعم هذا من أساسيات المرحلة الانتقالية، وهنا يمكننا القول بأنّ الوقت مناسب للانتخابات لكن المترشحين غير مناسبين، نُريد الجمع بين متناقضين رغماً عن أنوفنا لكن النتائج لا تبدو مبهرة دائماً، فالتناقض ها هنا لا يخدم لا الدولة ولا الشعب.
كلّ من اختار المشاركة بالانتخابات حرّ في رأيه، وكل من اختار العزوف حرّ أيضاً، لذا ليس من صلاحية الراضين عن الانتخابات أن يتهموا الرافضين بالخيانة، فكلّ شخص يُعبّر بطريقته الخاصة، لكنّنا جميعا ضدّ الفوضى والهمجيّة، وعليه ينبغي أن نحترم اختياراتنا، والنتائج آتية لا محالة، سيتحمّل كلٌّ منّا العواقب سواء شارك أم لا، قد يقول البعض كيف ذلك؟ الجواب يكمن في خبايا السياسة، فسواء تمّت الانتخابات والتي سيكون نتاجها شخص تمّ التحضير لطبخته مسبقاً بإعداد التوابل المناسبة وتحديد الوقت اللازم ليتناولها الشعب سواء حارة أم باردة المهم أنّه سيتناولها، وحتى لو حدث شيء ما لا ندري ما هو أو في حال لم تتم الانتخابات أو في حال فشلها، نعم كل شيء محتمل في عالم السياسة، وبالنهاية سيفعل السّاسة ما يحلو لهم لأنّهم هم من وضعوا القوانين والدساتير وهم من لهم صلاحيات تعديلها وإيهام الشعوب بأنّهم ساهموا بها أيضاً، وهكذا تستمر الأسطورة التي يبنيها المُستبِد ويتبنّاها المُستَبد به.
المرحلة القادمة مجهولة التفاصيل، حتى لو تكلّمنا دون هوادة، حتى لو حلّل مضامينها أكبر المختصين في المجال فلن يستطيع لها تفسيراً، لأنّ النظام عندنا معقّد لا يُشبه أيّ نظام آخر، حتى الشخصيات التي تحفّ السلطة من كل النواحي لا يمكن تمييزها فقد اختلط الصالح بالطالح منذ سنون مضت والحل ضائع وسط حكايات ألف ليلة وليلة، والمشكلة أنّ الشعب يكره القراءة والنظام لا يُشجّعه على ذلك، وهنا تكمن المُفارقة!
هذا الضياع الذي نُعانيه عبارة عن تراكم تاريخيّ تسبّب فيه انصياع سابقينا لكلّ القرارات دون قول لا فانتقلت إلينا العدوى، حتى أنّ لا في كثير من الأحيان تعني نعم، قد يقول البعض دعونا نُجرِّب لعلّ وعسى، والإجابة لن تحتاج إلى تدبير وتخطيط، لأنّه ليس بيدنا قول لا أو نعم، ليس بوسعنا تجرّع ولو قطرة من الديمقراطية أو الحريّة أو العدل أو أيّة مُصطلح درسناه نظرياً والتطبيق ظنّناه قريب التحقُّق، لكن الخيبات كثيراً ما تأتِ على طبق من ذهب، والحقيقة أنّ الأقنعة بدل أن تسقُط تكاثرت، وبات من الصعب التمييز بين الوجوه الحقيقية والمُستعارة، ولا توجد ها هنا شطارة بل ترقُّب ترقُّب ترقُّب وهذا التكرار شهدناه كثيراً فأمسى عادة حتى في فضفضاتنا، نعم لأنّنا شعوب لا تشبع من التاريخ الذي يُعيد نفسه.
قد يُجادل البعض قائلا نحن خرجنا وطالبنا بسقوط العصابة، نعم فعلنا لكنّنا على مرّ تلك الشهور رفضنا أن نجلس ونستمع لبعضنا البعض، رفضنا كل شخص بسيط يتكلّم، أو بمعنى آخر كل شخص يكتب النافع وركضنا نحو الخطابات الوهميّة وربما نِتاجها انتخابات وهمية في قالب واقعي، ولن نزيد في الكلام أو نُقلّل لأنّنا نخوض الثورات ونحن نجهل معناها، ونحمل شعارات دون وعي، ونرفض وضع البدائل ظنًّا منّا بأنّه الحل الأنسب، لا لوم علينا وبذات الوقت كلّ اللوم علينا، والملفات التي ظنّناها أُغلقت ستُفتح من جديد. نحن الجيل الذي يُريد للجيل الذي سيأتِ بعده أن يعيش، ربما مشكلتنا أنّنا لم نُفكِّر بأنانية ونُطالب بحقنا في العيش أيضاً، ببساطة لم نُحبّ أنفسنا ونُنادي بحقوق من سيُقبِلون من بعدنا ومن سيتوارثون سذاجاتنا فلماذا نُفكِّر عنهم ونتحمّل مسؤولياتهم؟ حينما يحين وقتهم سيعتمدون على أنفسهم ويُفكِّرون بالطريقة التي تُناسِب عصرهم أم أنّنا سنورِّثهم الخُمول أيضاً؟
ألا يكفينا ما نحن فيه من تهميش، إذا لم نُفكِّر في إصلاح أوضاعنا فليس من المنطقي أن نحمل شعار جيل لا ندري كيف سيبدو وأيّ تطوُّر سيُعايشه، يكفينا التخلّف الذي نحن فيه، بل لا يكفينا لأنّنا رضينا به، وما أدرانا ربما نحن آخر الأجيال، وعليه سيذهب يومنا وغدنا مع الريح.
ليندة طرودي باحثة دكتوراه علوم سياسية
الجزيرة نت