
تشرق على موريتانيا اليوم الذكرى الخامسة والستون للاستقلال الوطني المجيد، ذكرى يتجدد فيها الشعور بالعزة والانتماء، وتفتح دفاتر التاريخ على سطورٍ خطت بدماء المجاهدين الأبطال. إنه يوم تلتقي فيه الذاكرة الوطنية بوجدان الشعب، ليعلو من أعماق الزمن صوت الكرامة والشهامة ليؤكد أن هذه الأرض لم تنل حريتها منحة، بل انتزعتها انتزاعا بتضحيات رجالٍ آمنوا بأن تحرير الوطن يستحق أن يُبذل لأجله أغلى ما يملكون، حتى ولو كانت آخر قطرة من دمائهم.
في جبال آدرار الشامخة، وصحاري تيرس الممتدة، وأودية الحوضين والعصابة، وسهول اترارزة والبراكنة، انبثقت ملحمة مقاومة سطرتها أجيال من الرجال؛ من حملة السلاح وروّاد الفكر والثقافة، الذين صانوا الهوية وحملوا مشعل الوعي. هناك، حيث كانت الأرض تختزن صمتها العميق، تشكّلت صفحات مضيئة من التضحية والفداء، وواجه فيها أبناء الوطن المستعمر بكل ما أوتوا من عزم وإيمان.
ومن دمائهم التي روت تراب البلاد شُيّد الجسرُ الذي نعبره اليوم نحو السيادة الكاملة، وتخفق بفضله رايةٌ مستقلة فوق وطنٍ حر. لقد كانت تلك التضحيات النواة الأولى لاستقلال البلاد، والبداية الحقيقية لفجر الدولة الموريتانية الحديثة.
تُمثّل ذكرى عيد الاستقلال الوطني مناسبة غالية على قلوب الموريتانيين، لما تحمله من رمزية عميقة تستحضر قيم الحرية والكرامة، وما تبعثه في النفوس من مشاعر الفخر والاعتزاز. فهي لحظة يعود فيها الوجدان الجمعي إلى صفحات النضال المجيد، ويستحضر فيها المواطنون تضحيات الآباء وما قاسته الأجيال من تنكيل ونهب واستبداد، قبل أن تُشرق شمس الانعتاق وتُبنى دولة ينعم شعبها اليوم بهواء الحرية وطمأنينة السيادة.
وإذا كان الاستقلال حدثاً نحتفي به كل عام، فإن معناه الحقيقي مسؤوليةٌ تُحمّل لكل فردٍ من أبنائه: مسؤولية الحفاظ على ما تحقّق، وصون مكاسب الدولة، وترسيخ روح المواطنة، وإكمال ما بدأه الآباء المؤسسون، فالتضحيات ليست ماضياً نتغنّى به فحسب؛ إنها عهدٌ مفتوح يتجدّد مع كل جيل، بأن يبقى الوطن فوق كل اعتبار، وأن تبقى المصلحة العامة هي البوصلة التي توجه خطواتنا، وأن يكون العمل الجادّ والصدق والإخلاص قاعدة البناء والتنمية.
لقد قطعت موريتانيا خلال العقود الماضية أشواطاً مهمّة في تثبيت مؤسساتها وترسيخ وحدتها الوطنية وتعزيز حضورها الإقليمي والدولي، إلا أن الطريق نحو التنمية الشاملة ما يزال يحتاج إلى عزمٍ صادق، وإلى وعيٍ جماعيّ بأن مكاسب الاستقلال يمكن أن تتآكل إن لم تُصَن، كما أن تضحيات الأجداد يمكن أن تفقد بريقها إن لم تُترجم إلى واقع أفضل وحياةٍ أكثر كرامة لكل أبناء الوطن.
إن صون الاستقلال اليوم يمرّ عبر محاور أساسية:
ـ محاربة الفساد بكل أشكاله باعتباره الخطر الأكبر على مقدرات الأمة.
ـ تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ ثقافة الانسجام والسلم الأهلي.
ـ الاستثمار في الإنسان عبر التعليم والتكوين والصحة باعتبارها ركائز النهضة.
ـ تحفيز الاقتصاد وبناء بنى تحتية تدعم فرص العمل وتضمن توزيعاً عادلاً للثروة.
ـ تعميق الديمقراطية واحترام سيادة القانون ومبادئ العدالة والمساواة.
وفي هذه الذكرى المجيدة، نرفع أكفّ الوفاء لأولئك الذين رحلوا وقد تركوا لنا البلاد أمانة، ونجدّد العهد على مواصلة المسير نحو مستقبلٍ يليق بمكانة موريتانيا وبآمال شبابها وطموحات شعبها. فالوطن الذي حُرِّر بالتضحيات لا يُصان إلا بالعمل، والدولة التي بُنيت على إرادة شعبٍ صابرٍ لا تزدهر إلا بإرادته.
وهكذا يبقى عيد الاستقلال مناسبةً لتجديد الروح الوطنية، ووقفةَ تأملٍ في الطريق الذي قطعناه، ومنطلقاً نحو آفاقٍ أرحب، حتى تظلّ موريتانيا ثابتةً على درب العزة والازدهار.





.jpg)
.jpg)




